ثانيا--اعتراضات من الكتاب المقدس:
لم تكن مسألة صلب المسيح وموته مسألة متفقاً عليها بين طوائف النصارى كما يتوهم البعض ؛ فقد كان هناك العديد من الطوائف التي تنكر فكرة الصلب
وتعتبر أن مثل هذا الشيء لا يليق بشرف المسيح ومنـزلته عند الله ، ومن هذه الطوائف طائفة (الباسيليديون) وطائفة (السرئتيون) إلا أن آراء هذه الطوائف أبيدت بسبب الاضطهاد والقتل ، بل إن مئات الأناجيل المقدسة القانونية قد ضاعت بسبب إهمال آباء الإيمان الأوائل لها ، فما ظنك بما سيحدث للأناجيل التي لم يعترف بها رجال الكنيسة واعتبروها شهادة زور ، يقول اللاهوتي عبد الفادي في تفسيره للإصحاح الأول من إنجيل مرقس المسمى " من هو المسيح " : " لقد كتب الكثيرون من شهود العيان عن التقاءاتهم مع المسيح . ويعتبر كل من هذه الأخبار التي سجلوها بشرى سارة أو إنجيلا مقدسا . فلا توجد أربعة أناجيل فقط ، بل مئات لأن كل شهادة صالحة عن سيرة المسيح وأقواله معناها " إنجيل ". وأما آباء الإيمان فاختاروا من إثباتات شهود العيان عن حياة يسوع ، أربعة أناجيل بارزة ". ويقول السير آرثر فندلاي في كتابه " صخرة الحق " ص(59) :" إن الأناجيل الحالية لم تستقر إلا في القرن الرابع الميلادي عقب مجمع قرطاجنة عندما تقرر أي الكتابات يحتفظ بها ، وأيها يرفض ويستبعد ، وقبل ذلك التاريخ سنة 379م لم يكن هناك شيىء اسمه العهد الجديد الذي نعرفه اليوم . ويعلل أحد رجال الكنيسة القديس آيرونيوس اختيار أربعة أناجيل في القرن الثاني بأن الأرض لها أربعة أركان " (1). وبالرغم من إبادة وتضييع وإهمال هذا الكم الهائل من المراجع القانونية أو غير القانونية في نظر الكنيسة المسيطرة في ذلك الوقت ، إلا أننا سنحاول في هذا الباب أن نبين بعض ما يمكن أن تكون تلك الطوائف المخالفة لفكرة الصلب قد استدلت به من نصوص الكتاب المقدس لإبراز صحة كلامها معتمدين على ما هو متوفر بين أيدينا من مراجع .
1- جاء في سفر أخبار الأيام الثاني (4:25) [لا تموت الآباء لأجل البنين ولا البنين لأجل الآباء بل كل واحد يموت لأجل خطيئته] فإن كان المرء يموت لأجل خطيئته لا لأجل خطيئة غيره ، فلا شك أن المسيح لم يمت على الصليب لأجل خطايانا ، ثم من ناحية أخرى فإن النص المذكور يدل على أن البشر لا يمكن أن يرثوا خطيئة أبيهم آدم.
2- إن وجود أبرار على سطح الأرض قبل موت المسيح يدل دلالة واضحة على أن البشر لم يرثوا خطيئة أبيهم آدم ، أو أنهم ورثوها لكنهم استطاعوا تطهير أنفسهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا حال نبي الله داود ، حيث يزعم الكتاب المقدس أنه قتل قائد جنده وزنى بزوجته أنظر صموئيل الثاني (11) ، لكنه عاد إلى طريق الرب واستطاع تطهير نفسه بمجرد أن اعترف بذنبه كما جاء في صموئيل الثاني (13:12) [ فقال داود لناثان : قد أخطأت إلى الرب فقال ناثان لداود: الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك لا تموت ] ، يقول اللاهوتي المسيحي أ.م.رينيك عن نبي الله داود :" لقد اعترف صراحة بخطيئته التي ارتكبها ضد الله ، وبرغم حكمه على نفسه بالموت دون أن يدري فإن الله في رحمته قد غفر له خطيئته ، وأبقى حياته" (1) بكل هذه البساطة يرفع الله حكمه بالموت – أي العذاب الأبدي ، والانفصال عن الله – عن داود ، يقول اللاهوتي المسيحي وليم مارش مؤكدًا هذا المعنى :" لا يموت داود الموت الثاني - أي العذاب الأبدي - لأن خطيئته غُفرت له " (2)، يبدوا أنه لم يكن هناك حاجة لسفك دم أحد حتى تكفر عنه خطيئته ، وجاء في سفر الملوك الأول (6:3) [ فقال سليمان، إنك قد فعلت مع عبدك داود أبي رحمة عظيمة حسبما سار أمامك بأمانة وبر واستقامة قلب معك ]. وقد استطاع نبي الله نوح أن يطهر نفسه أيضا دون حاجة لأحد ، حيث جاء في سفر التكوين (1:7) [ لأني إياك رأيت بارا ] .
ويوضح لنا المسيح نوع الناس الذين جاء من أجلهم فيقول في إنجيل متى (13:9) [لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى فاذهبوا وتعلموا ما هو إني أريد رحمة لا ذبيحة لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة ]، إذن فهناك أبرار ، وهناك خطاة ، فإن كان المرء باستطاعته أن يطهر نفسه ، فلماذا يصلب المسيح ويموت ؟!.
3- " إن التعليم الذي يتضمنه هذا الإصحاح وخلاصته في العدد (20) يجب أن يوضع في سياق السفر بمجمله كي يتسنى الحكم عليه بإنصاف فغرضه الرئيسي تبرير عدالة الله ، وفي الذهن أزمة معينة . إذ عزا معاصروا النبي العقاب النازل بهم إلى مجازاة خطايا الجيل السابق لهم فأعلن حزقيال أن الله لا يتصرف على هذا النحو بل يعتبر كل إنسان مسؤولا عن أعماله وسيجازيه الجزاء الذي يستحق عليها "، هذا ما يقوله ج.ر. بيسلي مورّاي أحد كبار اللاهوتيين المسيحيين عن الإصحاح (18) من سفر حزقيال (3)، ودعونا نذكر العدد (20) الذي أشار إليه ج.ر. بيسلي وثلاثة أعداد بعده حتى تتضح لنا الصورة بشكل أفضل حيث جاء فيها: [ النفس التي تخطي هي تموت الابن لا يحمل إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن بر البار يكون عليه وشر الشرير يكون عليه فإذا رجع الشرير عن جميع الخطايا وحفظ جميع فرائضي وفعل حقا وعدلا فحياة يحيا لا يموت كل معاصيه لا تذكر ،في بره الذي عمل يحيا ، هل مسرة أُسرُّ بموت الشرير إلا برجوعه عن طريقه فيحيا ] سفر حزقيال (20:18-24) ، ويدل هذا النص على عدم موت المسيح على الصليب من أربعة وجوه:-
أ- أن النفس التي تخطي هي تموت ، والمسيح لم يرتكب خطأ فلن يموت بسبب ذنوبنا.
ب- أن الابن لا يحمل إثم الأب ، إذن فليس هناك خطيئة موروثة ليموت المسيح من أجلها.
ت- أن بر البار يكون عليه ، وهذا يدل على أن الأبرار موجودون على الأرض ، وبالطبع فهم لا يحتاجون لموت المسيح.
ث- أن الشرير إذا رجع عن خطاياه التي فعلها ، وحفظ جميع فرائض الله ، وفعل حقا وعدلا ، سينال المغفرة من الله و سيحيا حياة أبدية من غير أن يكون بحاجة إلى من يموت عنه ليكفر عنه خطاياه ، يقول ج.ر. بيسلي :" فالإنسان ليس بريئا فقط من خطيئة أبيه ، بل يمكنه أيضا أن يتحرر من ماضيه الشخصي إذا رغب ، إنه يستطيع أن يتوب حالاً " (2).
4- في سفر إشعياء (15:1-18) [ فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم وإن كثرتم الصلاة لا أسمع أيديكم ملآنة دما اغتسلوا تنقوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني كفوا عن فعل الشر تعلموا فعل الخير … هلمَّ نتحاج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج ] إن الذي يقع في المعاصي يبتعد وينفصل عن الله ، ولا يسمع الله صلاته إلا إذا رجع إلى فعل الخير ، وندم عما صنع ، هذا ما يقوله إشعياء النبي ، لكن أهل سدوم وعمورية رفضوا الرجوع إلى طريق الرب ، واستمروا في طغيانهم ، فأهلكهم الله ، وعلى عكسهم أهل نينوى ؛ لما رجعوا عن آثامهم وتابوا إلى الله ، رجع الله عن حكمه عليهم بالموت ، وترك المدينة من غير أن يقتل أحدا ليكفر عن خطاياهم ، جاء في سفر يونان (10:3) [ فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الردية ندم الله على الشر الذي تكلم به أن يصنعه بهم فلم يصنعه ] ، يقول د.و.ب. روبنسن :" فإنما كان يونان هرب إلى ترشيش لأنه يعلم العلم اليقين أن الله سيشفق على نينوى إن هي تابت ، أما وقد تابت نينوى الآن ، يعلم يونان أن الدينونة لن تحل بها " (2)، والسؤال هو : كيف رجع الله عن حكمه عليهم بالموت ؟ أين ذهب عدل الله ؟! والأمر أبسط مما يتصوره الكثيرون ؛ فإن الله أصدر حكمه بالموت على من لم يتب من خطيئته ، أما من تاب فإن ما جاء في سفر إشعياء وما حدث لأهل نينوى يدل على أن الله لم يصدر عليه الحكم بالموت ، إن د.و.ب. روبنسن يصف كون الله رحيما بعباده إذا تابوا بأنه :"من طبيعة الله اللامتغيرة " (1)، إذا فلا حاجة لموت شخص لا ذنب له إن كانت التوبة تنفع المذنبين ، يقول اللاهوتي و.فتش في تفسيره لسفر إشعياء :" ليس لعصيان الإنسان إلا جواب واحد حاسم ألا وهو غفران الله المجاني " (3).
5- يعطينا إنجيل متى (17:19) إجابة مهمة عن سؤال مهم جداً ، قام بطرحه شاب غني جاء إلى المسيح حيث سأل ذلك الشاب :[ أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية ؟ ] فماذا كان جواب المسيح ؟ لقد قال له :[ إن أردت أن تدخل الحياة الأبدية فاحفظ الوصايا ] ، وعندها يطلب الشاب مزيدا من التوضيح فيسأل[ أية وصايا ؟ ] فيجيبه المسيح:[ لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد بالزور أكرم أباك وأمك أحب قريبك كنفسك ] ، إن المسيح لم يذكر للشاب الغني شيئا عن موته وصلبه ، الذي سيتم من أجل تكفير خطاياه ؛ لماذا ؟ هل كانت الأعمال الصالحة كافية لنيل الحياة الأبدية من غير حاجة إلى موت أحد ؟ ! يبدوا أنها كافية في رأي المسيح ، ويبقى أن تجيب عن رأيك !
6- ويعطينا إنجيل متى (34:25) فكرة مماثلة عن أولئك الذين سيرثون ملكوت السماوات فيقول: [ ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني عطشت فسقيتموني كنت غريبا فآويتموني عريانا فكسوتموني مريضا فزرتموني محبوسا فأتيتم إلي ] وعند ذلك يسأل الأبرار متعجبين متى فعلنا هذه الأمور معك! فيقول :[ الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم ] ، ومرة أخرى يوضح المسيح أن ملكوت السماوات ينال بالبر والأعمال الصالحة ، لا بموت شخص لا ذنب له .
7- قال المسيح لتلاميذه في إنجيل متى (5:10) [ إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامرين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ] ، وهذا يدل دلالة واضحة على أن المسيح لم يأت للموت على الصليب تكفيرا عن خطايا البشر ؛ إذ إنه لم يرسل إلا إلى بني إسرائيل ، تقول دائرة المعارف البريطانية :" إن أسبق حواريي المسيح ظلوا يوجهون اهتمامهم إلى جعل المسيحية دينا لليهود ، وجعل المسيح أحد أنبياء بني إسرائيل إلى بني إسرائيل " (1).
وقد يقول بعض الناس إن المسيح أرسل لجميع الناس ، ويستدل لذلك بما جاء في إنجيل يوحنا (16:10) [ ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة ، وينبغي أن آتي بتلك ] وما جاء في نفس الإنجيل (32:12) [ وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع ] ، ونسأل من يقول هذا هل سيجذب المسيح إليه جميع الناس من آمن به ومن لم يؤمن ؟ الجواب :لا ، إذن من قصد المسيح بالجميع ؟ ومن قصد بالخراف الذين من الحظائر الأخرى ؟ قد يقول قائل: قصد بهم كل من يؤمن به من جميع الأمم ، نقول هذا رأيك ، أما بالنسبة لنا ، فقصد المسيح نعرفه من قوله في إنجيل متى (24:15) [ لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ] فلا بد أنه قصد من آمن به من اليهود من حظيرته ، أي سبطه ، ومن سائر الحظائر ، أي الأسباط الإحدى عشر الأخرى .
8- من أهم الأشياء التي تنفي صلب المسيح تلك النصوص التي تدل على أن المسيح لم يكن يريد أن يموت ، فقد طلب من الله أن ينجيه من تلك الساعة -ساعة الصلب - حيث جاء في إنجيل يوحنا (27:12) [ الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول أيها الآب نجني من هذه الساعة ] ، ولا بد أن الله قد سمع لصلاة المسيح ، ويظهر هذا بوضوح في رسالة العبرانيين (7:5) حيث يقول كاتبها :[ الذي في أيام جسده ( يعني المسيح ) إذ تقدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه ] ، إن هذه التضرعات هي التي ذكرها إنجيل متى (36:26-44) .
وقد يقول قائل: إن الله استجاب لدعاء المسيح لا بإنقاذه من الصلب ، بل بأن أقامه من الموت في اليوم الثالث، ويؤسفني أن أقول: إن من يقول هذا الكلام لم يقرأ الإنجيل ؛ لأن المسيح كان عالما بأنه سيقوم من الموت بعد ثلاثة أيام لو مات فقد جاء في إنجيل متى (23:17) [ ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم ] وعليه فلن يحتاج المسيح لتلك التضرعات والدموع ، أما لو كان يريد أن لا يحدث الأمر الذي كان من المفتروض أن يحدث والذي أخبر به عدة مرات ، فإنه بحاجة لتلك التضرعات والصرخات حتى يخلصه الله من الموت .
9- لقد قال المسيح عبارة مهمة جداً عند وداعه لأورشليم تدل بكل وضوح على أن المصلوب لم يكن المسيح ؛ حيث جاء في إنجيل لوقا (13 :33) قول المسيح :[ بل ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارج عن أورشليم ] وهو بهذا يخبر عن نفسه كما هو واضح من الكلام ، ولا شك أنه لم يقصد الإخبار عن جميع الأنبياء أنهم لا يهلكون إلا في مدينة أورشليم ، هذا أمر لا شك فيه ، وقد تتساءل : ما دخل هذه العبارة بكون المصلوب شخصا آخر غير المسيح ؟ فأقول : إن الأمر سهل وواضح لمن يقرأ الإنجيل ، فقد جاء في إنجيل يوحنا (20:19) :[ فقرأ هذا العنوان كثيرون لأن المكان الذي صلب فيه يسوع كان قريبا من المدينة ] ، وأظن المسألة قد انتهت ، وصارت واضحة ، فإن الموضع الذي تم فيه الصلب كان خارج مدينة أورشليم على مقربة منها ، ولم يكن في المدينة ، بينما أخبر المسيح أن المكان الذي سيهلك فيه سيكون في المدينة ، لا بالقرب منها ، وبالتالي فلا شك أن الذي مات على الصليب كان شخصا آخر غير المسيح .
10- ويعطينا إنجيل متى عبارة واضحة تدل على أن المصلوب كان شخصا آخر غير المسيح حيث قال المصلوب: [ إلهي إلهي لماذا تركتني ؟ ] متى (46:27) فهذه العبارة تدل على ثلاثة أمور:
أ- أن الله ترك الشخص المصلوب .
ب- أن المصلوب لم يكن راضيا عن ترك الله له.
ت- أن المصلوب لم يكن راضيا عما يحدث له.
وهنا نسأل:هل يمكن أن يكون المصلوب هو المسيح ، لقد قال المسيح في إنجيل يوحنا (29:8):[ والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه ] ولكننا نجد أن الله ترك المصلوب.
لقد أخبر المسيح أنه سيكون راضيا عن إرادة الله وإن خالفت إرادته ، حيث قال في بإنجيل لوقا (41:22) [ إن شئت فلتعر عني هذه الكأس لكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ] ولكننا نجد أن المصلوب لم يكن راضيا عن ترك الله له.
ثم إن قلنا : إن المصلوب هو المسيح فإن العبارة تدل على أنه لم يكن راضيا عما يحدث له ، فكيف نقول : إنه نزل وتحضر لأجل هذه الساعة ساعة الصلب ؟!
إن هذه العبارة تدل بكل وضوح على أن المصلوب كان شخصا آخر غير المسيح ، إلا أن أحدا من التلاميذ لم يستطع أن يدرك ذلك ، لقد تركوا المسيح في تلك الليلة ، فلا أحد منهم يستطيع أن يعرف ماذا حصل له ، هذا ما تنبأ به المسيح في إنجيل يوحنا (32:16) [ هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي ولست وحدي لأن الآب معي ] وهذا ما حدث بالفعل ، فعندما جاء الجند للقبض على المسيح تركه الجميع وهربوا ، أنظر إنجيل مرقس (50:14) ولهذا فقد ظن التلاميذ أن الجند قبضوا على المسيح وصلبوه ، ولو أنهم تأملوا قول المصلوب [ إلهي إلهي لماذا تركتني ] لعرفوا أنه شخص آخر.
إن هذه النصوص - وغيرها الكثير - تدل بشكل واضح على أن فكرة الخطيئة والصلب بعيدة عن تعاليم المسيح ، وقبل أن ننهي الكلام في هذا الفصل دعونا نجيب عن ثلاثة أسئلة مهمة:-
الأول: إن كان المصلوب شخصا آخر فأين ذهب المسيح ؟
الثاني: ألم يقم المسيح من الموت في اليوم الثالث ؟
الثالث: أين ذهبت جثة المصلوب ؟
وحتى نجيب عن السؤال الأول دعونا نرجع إلى ما قاله المسيح للخدم الذين أرسلهم الكهنة والفريسيون ليمسكوه [ وقال لهم يسوع: أنا معكم زمانا يسيرا بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون لا تقدرون أنتم أن تأتوا ] وهذا يدل بوضوح على أن المسيح سيذهب إلى الذي أرسله ، أي سيصعد إلى السماء .
وعاد المسيح وأكد هذا الكلام في الليلة التي جاء الجند فيها للقبض عليه ، حيث قال في إنجيل يوحنا ( 4:17-6) [ أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته والآن مجدني أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم أنا أظهرت اسمك الناس الذين أعطيتني من العالم ] ثم قال في العدد (11) [ ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي إليك ] ثم قال في العدد (13) [ أما الآن فأنا آتي إليك ] وتشير هذه النصوص إلى عدة أمور:
1- أن المسيح أكمل عمله الذي جاء من أجله ، إذن فهو لم يأت ليصلب.
2- أنه طلب من الآب أن يمجده.
3- أن هذا المجد كان يستحقه منذ القدم.
4- أنه سيذهب الآن إلى الآب ، أي سيصعد إلى السماء.
5- أنه عرف اسم الله وأظهره للناس.
لقد صعد المسيح إلى السماء ، لقد كان هذا واضحا في كلامه ، تأمل العدد (11) والعدد (13) لم يبق المسيح في العالم ، وهذا الذي ذكره المسيح هو ما تنبأ به المزمور (9:91-15) ، حيث جاء فيه: [ لأنك قلت أنت يا رب ملجئ جعلت العلي مسكنك لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة من خيمتك لأنه يوصي ملائكته لكي يحفظوك في كل طرقك على الأيدي يحملونك لئلا تصطدم بحجر رجلك … لأنه تعلق بي أنجيه أرفعه لأنه عرف اسمي يدعوني فأستجيب له معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده ] ، فقد جاء في هذا المزمور أن الله مجد هذا الذي دعاه ، وهو ما طلبه المسيح ليلة القبض عليه، وجاء أنه عرف اسم الله وهو ما أخبر به المسيح ، وجاء فيه أن الله سيرفعه ، وهو ما أخبر به المسيح من ذهابه إلى الآب ، وقد ذكرنا فيما سبق أن المسيح دعا الله لكي ينجيه من الموت، إن الله قد سمع دعاءه واستجاب له ، وهذا ما جاء في النبوءة .
وجاء في المزمور (1:20-6) [ يستجيب لك الرب في يوم الضيق ليرفع اسمك إله يعقوب ليرسل لك عونا من قدسه ومن صهيون ليعضدك … نترنم بخلاصك باسم إلهنا نرفع رايتنا ليكمل الرب كل سؤلك الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه ]نعم ، لقد خلص الله المسيح كما جاء في هذا المزمور.
أما ما يستدل به بعضهم من نبوءات عن صلب المسيح ، فإما أنها تتحدث عن شخص آخر أو أن الله ألغاها للصرخات التي قدمها المسيح للعلي القدير ليخلصه.
فإن كنت غير مصدق بعد بنجاة المسيح وصعوده إلى السماء ، فتأمل قول المقبوض عليه في إنجيل لوقا (67:22) عندما سأله رؤساء الكهنة والكتبة [ إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم، إن قلت لكم لا تصدقون وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني، منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قوة الله ] (1)وبالفعل فإنهم لم يصدقوه ولم يطلقوه عندما أخبرهم أنه ليس المسيح ؛ لأن المسيح حسب كلامه سيكون جالسا الآن عن يمين قوة الله ، فهل ستصدقه أنت أم ستفعل كما فعل رؤساء الكهنة والكتبة ؟
ومن المؤسف أن الذين طبعوا الإنجيل طبعة الترجمة العربية المشتركة من اللغة الأصلية عندما أدركوا هذه الحقيقة ، حرفوا النص وجعلوه [ لكن أبن الإنسان سيجلس بعد اليوم عن يمين الله القدير ] وأظنك تدرك الفرق بين " منذ الآن " و " بعد اليوم "، وكان الأجدر بهم أن يعترفوا بنجاة المسيح وصعوده إلى السماء ، ولكن ليصدق عليهم قول إرميا (8:8): [ كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب ].
أما إجابة السؤال الثاني فيمكنك أن تعرفها إذا رجعت إلى موقف التلاميذ من الشخص الذي ظهر لهم بعد ثلاثة أيام ، هذا الموقف الذي تمثل في شك التلاميذ بذلك الشخص ، وتوقفهم في التصديق بأنه المسيح في أول الأمر ، فقد شكت مريم المجدلية وظنته البستاني ، كما يروي إنجيل يوحنا (14:20 - 15) ، وشك التلاميذ عندما ظهر لهم كما يروي إنجيل لوقا (36:24 - 37) ، وظنوا أنهم رأوا روحا ، وشك توما عندما أخبره التلاميذ بأنهم شاهدوا المسيح ، وبقي غير مصدق حتى بعد أن رآه إلى أن نظر أثر المسامير في يديه يوحنا (25:20 - 29) ، وشك بعض التلاميذ عندما صعد ذلك الشخص إلى السماء في آخر لقاء به كما يروي إنجيل متى (17:28) ، ولهذا فمن حقنا أن نشك في ذلك الشخص أيضا ، لقد شك فيه أقرب الناس إليه بعد أن رأوه فكيف بالذي لم يره أصلا!
ولهذا علينا أن نتساءل عن هوية هذا الشخص ؟ يمكنك أن تعرف الجواب إذا ما رجعت إلى ما قاله ذلك الشخص الذي ادعى أنه المسيح وأنه قد قام من الموت وإلى ما قاله المسيح الحقيقي ، حيث جاء في إنجيل لوقا (39:24) أن ذلك الشخص قال للتلاميذ عندما لم يصدقوا أنه المسيح [ انظروا يدي ورجلي إني أنا هو ] إن التلاميذ لم يكونوا بحاجة إلى أن يقول لهم ذلك الشخص " إني أنا هو " حتى يعرفوا أنه المسيح لأنهم كانوا أقرب الناس إلى المسيح . ولكن لابد أن يتم ما تنبأ به المسيح في نفس الإنجيل إنجيل لوقا (8:21) عند حديثه عن المسحاء الدجالين ، فقد حذر تـلاميذه من هـذا الشخص قـائلا: [ سيأتون باسمي قائلين إني أنا هو والزمان قد اقترب فلا تذهبوا وراءهم ] ، إن عبارة ذلك الشخص " إني أنا هو" هي نفس العبارة التي أخبر المسيح أن المسحاء الدجالين سيقولونها للتلاميذ (1)، ولهذا فنحن لا نشك أن ذلك الشخص الذي ظهر للتلاميذ هو أحد المسحاء الدجالين الذين حذر منهم المسيح تلاميذه ، وأخبرهم بأنه سيأتي إليهم قريبا لا لأحد غيرهم وأن عليهم أن لا يتبعوه ، وبهذا نستطيع أن نفسر لماذا كان التلاميذ في أول الأمر يشكون في ذلك الشخص ولا يصدقون بأنه المسيح كلما ظهر .
لكن التلاميذ نسوا كلام معلمهم ، لقد دخلوا جميعهم في التجربة التي حذرهم منها المسيح عندما كان يصلي في بستان جثسيماني حيث جاء في إنجيل متى (41:26) [ اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة ] إلا أنه كان يجدهم في كل مرة نياما ، لقد علمهم المسيح كيف يصلون ، كما جاء في إنجيل متى (9:6-13) وكان من ضمن هذه الصلاة أن يقول المرء : [ ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير ] وعندما احتاج التلاميذ لهذه الصلاة ذهبوا وناموا ، ونتج عن ذلك عدم نجاتهم من الشرير ، ودخولهم في التجربة التي كان المسيح يخشى عليهم من الدخول فيها كما هو واضح من كلامه لهم في البستان .
ولن نتعجب إن سمعنا هذا الشرير يقول للتلاميذ [فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس ] كما جاء في إنجيل متى (19:28) ليهدم بذلك قول المسيح في نفس الإنجيل (5:10) [ إلى طريق أمم لا تمضوا والى مدينة للسامرين لا تدخلوا بل أذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ] ، فقد أراد هذا الشخص أن يضل مع التلاميذ العالم بأسره.
أما إجابة السؤال الثالث فإن الإنجيل يعطينا احتمالين بإمكانك أن تختار أيهما تريد ، الأول :أن يكون أشخاص مجهولين قد أخذوا الجثة ، وهذا ما قالته مريم المجدلية في أول الأمر عندما لم تجد الجثة كما جاء في إنجيل يوحنا (2:20) [ وقالت لهم: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه ] ، الثاني: أن يكون بعض أتباع المسيح قد أتوا ليلا وسرقوا الجثة كما طلب اليهود من الحراس أن يقولوا ، أنظر إنجيل متى (13:28) .
أما مسألة حراسة القبر فإن الحراس الذين قبلوا الرشوة من اليهود يمكن أن يقبلوها من أي شخص آخر ، وبالأخص إن طمأنهم بأنه سيستعطف الوالي حتى لا يعاقبهم كما فعل اليهود عندما طلبوا من الحراس أن يقولوا إن التلاميذ جاؤوا ليلا وسرقوا الجثة ، متى (14:28). ثم لا ننسى أن حراسة القبر كانت في اليوم التالي لدفن الجثة ،كما جاء في إنجيل متى (62:27-63) وهذا يتيح الفرصة لمن يريد أن يأخذ الجثة أن يأخذها دون عناء .
وبهذا ننهي ما يمكن أن تكون قد استدلت به الطوائف المسيحية المعارضة لفكرة الخطيئة والكفارة ، لننتقل إلى الفصل الثالث الذي يتضمن بعض الاعتراضات العقلية حول مبدأ الخطيئة والكفارة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق