.

hhhh

4587

الفصل الثاني أسطورة التجسد في المسيحية


الفصل الثاني
أسطورة التجسد في المسيحية

" كان الآباء المسيحيـون متأكدين بأنهم - بإعلانهم تجسد الكلمة و بعـثها و صعـودها - لا يقومون بنشر أسطورة جديدة.
في الواقع كانوا يستخدمون مقولات التفكير الأسطوري، و من البيِّـن أنهم لم يكونوا قادرين على تمييز و إدراك هذا التفكير الأسطوري في الأساطير التي أزيلت قداستها، للعلماء الوثنيين المعاصرين لهم.

و لكن من الواضح كذلك أن دراما (أي سلسلة أحداث حياة) عيسى المسيح تشكل مركز الحياة الدينية بالنسبة للمسيحيين بجميع عقائدهم و فرقهم. و بالرغم من أن تلك الأحداث جرت وقائعها في التاريخ، غير أنها أوجدت أولاً إمكانية للخلاص، ولذلك صار هناك طريق واحد فقط للنجاة و هو تكرار هذه الدراما النموذجية على نحو طقوس و شعائر دينية و تقليد ذلك النموذج الأسمى الذي توحي به حياة و تعاليم عيسى.

و الآن، أضحى هذا النمط من السلوك الديني، مقيداً و مكبلاً بتفكير أسطوري خالص." ميرسيا إليادي ([1]).

في معالجتنا لموضوع التجسد في التعليم المسيحي، يجب أن ننتبه إلى أمر هام و هو أن كلام الله ([2]) إنما يخاطب البشر من خلال كلمات الإنسان ومستخدماً لغة الإنسان.

فكلام الله المبلغ إلينا عبر اللغة غالباً ما يستلزم سياقـاً أسطورياً أو خيالياً، لأن لغة التخيل هي أحد أهم الطرق التي يتكلم بها بنو الإنسان.

و في التعامل مع شخصيةٍ على مثل هذا الجانب من الأهمية مثل شخصية عيسى المسيح، فإنه من المفيد أن نتذكر أنه عندما يكون هناك أمر استثنائي، يكون هناك دافع قوي للبشر أن يعزوا و ينسبوا إليه صفات و ميزات إعجازية خارقة. فهذا هو الطريق الذي يستدعي فيه الإنسان لذهنه فكرة المعجزة و الأمر الخارق للعادة للشيء الذي يستحق فـعلاً الحيرة و التعجب. فالقصة الإعجازية في طبيعتها، غالباً ما تكون أفضل طريق للتعبير عن سر يمكن أن يكون أو لا يكون إعجازياً في حقيقته.

إن التصور أو الرؤية المسيحية المبكرة للحقيقة ـ كما تنعكس في الكتابات المقدسة ـ هي ذات طبيعة ديناميكية (فعالة حيوية) غنية بالواقع التاريخي والخيال معاً، و لا يقصد بالخيال هنا معنى تحقيرياً بل المقصود منه تفسير غني للحقيقة يجعل لها معنى ومغزى.

فالأسطورة و الخيال كان لهما نفوذهما في كتاب العهد الجديد تماماً مثلما كانا ذا نفوذ في كتاب العهد القديم ومثلما هما نافذان في كل أنحاء الشرق الأدنى القديم.

إن التحقيق العلمي الذي قام به " رودولف بولتمان " Rudolf Bultma لكتاب العهد الجديد يوضح لنا كثيراً من الأبعاد الخيالية (الأسطورية) في الكتابات المقدسة المسيحية.

فقد بين لنا أن الناس في الأزمنة المعاصرة لتدوين العهد الجديد كانوا يعتقدون أن العالم يتألف من ثلاث طبقات هي الجنة و الأرض والجحيم، و كانوا يعتقدون أنه يمكن للكائنات فوق الطبيعية أن تصعد و تهبط كما في مصعد سماوي ([3]) و بهذا يجعلون تدخل كائنات فوق طبيعية، و البعث و الصعود و المجيء الثاني للمسيح أمراً قابلاً للتصديق.

لقد توقعت الجماعة المسيحية الأولى عودة عيسى كابن الإنسان آتياً على سحاب السماء حاملاً معه الخلاص للبعض و الإدانة و الهلاك لآخرين كقاض " دائن " للعالم، و مفتتحاً مملكة الله على الأرض. هذه الرؤيا الأخروية Eschatological هي في الواقع صورة خيالية (أسطورية).

بالإضافة لذلك لقد تم وضع عيسى في إطار و محيط ميثولوجي (أسطوري) عندما قيل عنه أنه ولد من روح القدس ومن والدة عذراء ([4]).

و علاوة على ذلك فمفهوم " ابن الله الذي كان موجوداً قبل العالم ثم نزل بشكل بشري ليخلِّص البشرية " يشابه تماماً بعض أساطير التخليص القديمة.

و عبارات العهد الجديد " نزل من السماء " أو ببساطة " نزل "، تشير إلى حصول حركة في الفضاء و لا تصف طبيعة العمل التخليصي لله، فهي أسطورية في شكلها ([5]).

و من التناقض أن الكتاب المقدس المسيحي، كالكتاب المقدس اليهودي، كلاهما يرفض بشدة الأساطير الوثنية، ولكن بنفس الوقت كلا العهدين يستبدلان نوعاً من الأساطير بنوع آخر، و كما يرى " آماوس وايلدر" Amaos Wilder: تم التغلب على الأساطير في كلا العهدين، بالاستعانة بأساطير أخرى!

كما أن نصوص العهدين تتألف من علاقة متبادلة متشابكة معقدة بين الواقع التاريخي و الخيال الأسطوري.

فالخرافات تقع في الزمن الأسطوري مثل مدة الأربعين يوماً للطوفان، و مدة السبعة أيام لخلق العالم ([6])، و لا تشتمل عادة على عنصر الزمان التاريخي.
و يرى العالم المتخصص بالعهد الجديد " نورمان بيرين " orman Perrin N أن هذا المزج (بين الأسطورة و الواقع) حدث بثلاث طرق :

(‌أ) إقامة ارتباط (علاقة متبادلة) بين المعطيات الحقيقية للتاريخ و المزاعم الأسطورية.

(‌ب)استخدام الأسطورة لتفسير التاريخ و إعطاء معنى معين له.

(‌ج‍) التاريخ نفسه عندما يُتذكر و تعاد روايته يصبح حاملاً للأساطير ([7]).
و رواية كتاب العهد الجديد لقصة الله المتجسد تشتمل على جميع تلك التطورات الثلاثة :

أما بالنسبة لإقامة ارتباط بين المعطيات التاريخية الحقيقية و بين المزاعم الأسطورية، ففي حين أن عيسى قد يكون أو قد لا يكون قد قام بادعاءات شخصية حول ألوهيته ([8]) فإن كُتَّاب العهـد الجديد قاموا بإدعــاءات

عريضة و شاملة له، أحدها أنه كان مثالاً حياً لإله متجسد. ([9])

و أما بالنسبة للتطور الثاني، أي تقديم معنى اسطوري للواقع التاريخي: فإن عيسى، يُقَدَّم، كتجسد لِلَّه، على أنه جاء وفاءً و تحقيقاً لبشارات العهد القديم بمجيء " مخلِّص - فادي " يرسله الله لتخليص الناس من الخطيئة.

فهنا تأخذ الأسطورة شكلَ فِـلْمٍ، مفعم بالحيوية، لتفسير التاريخ.

و أما بالنسبة للشكل الثالث، أي أن يؤدي التاريخ نفسه وظيفة الأسطورة: فإن رواية الأحداث في كتاب العهد الجديد، تساعد على تقديم و إظهار مغزى لتلك الأحداث للأجيال القادمة.

فقصة عيسى تصبح عهداً (ميثاقاً) جديداً، النقطة المحورية فيه هي المكاشفة الذاتية (البوح الذاتي) لِلَّهِ عن نفسه للبشرية.

و التاريخ نفسه تمت أسطرته عندما تحولت تلك الفترة التاريخية التي كان يمشي فيها عيسى على الأرض إلى فترة مقدسة أسطورية.

إن كتاب العهد الجديد يقدم لنا صورة مزدوجة عن عيسى: تاريخية (حقيقية) و أسطورية (خيالية). فـ " عيسى الناصري " رجل في التاريخ يحتل زماناً و مكاناً محددين، بينما " عيسى المسيح " هو تعبير أسطوري ـ لاهوتي ([10]) ينطلق من إيمان الجماعة المسيحية الأولى بكائن و شخصية فاتنة استثنائية.

و هكذا فصورة عيسى في كتاب العهد الجديد تتراوح بين الحقيقة التاريخية و الخيال الأسطوري، فهي متوزعة بين ما فهمه كُـتَّـاب العهد الجديد و بين ما شعروا به.

و إنه لمن الصعب بمكان النفوذ إلى عيسى التاريخي الحقيقي الواقعي أو إعادة بناء صورة عيسى التاريخي الواقعي المحض، و ذلك لعدة أسباب، منها أن روايات تعاليمه و أحاديثه لم يُبتَدأ في كتابتها إلا بعد انقضاء زمن جيل كامل واحد على الأقل من صدورها، و هي مدة، أوجدت التعاليم الشفهية خلالها تعديلاً و تحويراً في الذكريات لتخدم هدف الجماعات و الطوائف الدينية المختلفة.

و علاوة على ذلك فإن معاصري المسيح كانوا ينظرون إليه، كلٌّ من زاوية وجهة نظره الخاصة، فمثلاً كان عيسى في أذهان يهود القرن الأول، الذين كانوا تلاميذه، تجسداً لفكرة المكرس الممسوح بالزيت (بالعبرية مِسِييَّه Messiah، و باليونانية كريستوس Christos) في حين أن آخرين رأوا في المسيح رِبِّـياً (رِبِّيّ هو لقب الحبر أو الحاخام عند اليهود) أو نبياً أو ملكاً أو مخلِّصاً.

و كنتيجة لذلك فإنه و إن كانت الأناجيل تقدم لنا صورة مترابطة لنوع الأمور التي قالها أو فعلها عيسى، إلا أنهم قليلون جداً - اليوم - الذين يصدقون، أو يحاولون أن يبرهنوا أن تلك الأمور كانت مدونات حرفية مطابقة 100% للواقع.

في دراستنا لشخصية " عيسى المسيح " من المفيد أن نميز بين " عيسى التاريخي " و " مسيح الكتاب المقدس ". " عيسى التاريخي " هو إعادة تنظيم و بناء شخصية المسيح على أساس الأناجيل، أي مستخدمين أقوال و أمثلة و تعاليم و أعمال و أفعال المسيح التي أمكن تذكرها.

أما " مسيح الكتاب المقدس " فهو التفسير الميثولوجي (الخيالي الأسطوري) و اللاهوتي لعيسى من قِـبَل الجماعة المسيحية المبكرة التي نظرت إليه على أنه إله. فمسيح الكتاب المقدس يشتمل على " ميلاد المسيح " و " المعجزات " و " الكلمة السابقة الوجود "، و قيامة المسيح و صعوده و دينونته (أي مجازاته الأخروية للناس) و " التجسُّـد "، و أغلب هذه القضايا تكـفَّـل الإنجيل الرابع (إنجيل يوحنا) بتوضيحها بنحو واف.

و يتضمن " مسيح الكتاب المقدس " بعض عناصر عيسى التاريخي و لكن بتبديل و تحوير، أي تُجرَى عليها عملية أسطرة Mythicization.

هناك القليل جداً من المعلومات عن عيسى الناصري التاريخي، و لقد تم حساب أنه - بصرف النظر عن الأربعين يوماً و ليلةً التي قضاها عيسى في البرية و التي لم نُخبَر عنها بأي شيء تقريباً - فإن كل ما روي لنا مما قاله و عمله المسيح في الأناجيل الأربعة يمكن أن يكون قد تم إنجازه كله في ثلاثة أسابيع فقط!

إن دراسة الأب جاك غوييه Jacques Guillet للأناجيل وصلت للنتيجة التالية: " إن المسيح لم يصف نفسه أبداً بصفة ابن الله (*) و لم يعرض نفسه أبداً على أنه المسيح، وأنه و إن كان قد تكلم عن مجيء ابن الإنسان بأسلوب الرؤية النبوية إلا أنه لم تكن لديه نية مطابقة نفسه على ابن الإنسان هذا، بل أراد فقط أن يعلن عن المجيء القريب جداً لمملكة الله" (([11].

طبعاً من غير الممكن لنا أن نعرف بالضبط ماذا كان يتصور المسيح عن نفسه أو ماذا كان يعلِّم. و من المحتمل أن يكون قد استعمل لقب " ابن الإنسان " مريداً به نفسه، و هذا ربما يكون قد شجع تلاميذه على أن يعتبروه المسيح، أي ابن داوود الممسوح و المكرس، و لكنه بالتأكيد لم يعرض نفسه أنه " ابن الله ".

إنه من العسير جداً أن نتصور أن عيسى و هو اليهودي الموحد، كان يتصور نفسه أنه الله " يَهْوَه " في حين أن الراجح جداً و الذي يمكن تصديقه هو أنه كان يرى نفسه أداةً لِلَّه أو خادماً لِلَّه.

كما أنه من البعيد غاية البعد أن يكون قد اعتقد في نفسه أو أن يكون تلاميذه الأوائل قد اعتقدوا فيه أنه " الله المتجسد ".

إن الراجح الأكثر احتمالاً هو أن تلاميذ عيسى الأوائل - في علاقتهم المتبادلة مع عيسى - قد وصلوا لقناعة و إيمان راسخ بحضور و نشاط (فعالية) الله في وسطهم، و بالتالي وصلوا لاقتناع بأن الله كان - بنحو ما - حاضراً و عاملاً في وسطهم عبر ذلك الرجل (أي عيسى).

إن عقيدة التجسد لم يظهرها عيسى نفسه و لكنها انبثقت في الكنيسة المبكرة كطريق للتعبير عن معنى (مغزى و دلالة) عيسى ([12]).

و كان الجو الذي ظهرت فيه هذه العقيدة جواً لم يكن من غير المألوف فيه أن يشار إلى شخصية إنسان استثنائي على أنه ابن الله.

لقد نظرت الكنيسة المبكرة إلى عيسى على أنه الإنسان الذي " أقامه الله و رفعه و أعطاه روح القدس ليسكبه على الكنيسة " (سفر أعمال الرسل إصحاح 2 / فقرة 32 - 33).

و بعض المسيحين الأوائل أحسوا أنهم قد التقوا بالله عبر عيسى بطريقة ملأت حياتهم تماماً و كلية. و مع نمو الجماعة المسيحية كان يزداد يوماً بعد يوم عدد الرجال و النساء الذين جربوا و مارسوا هذه الإثارة و هذا السِلْم الذي يمنحه " الطريق الجديد "، إلى أن بدأوا، قبل أن ينقضي الجيل الأول بعد صلب (*) عيسى، بالتفكير بعيسى على أنه إلـهٌ بمعنى الكلمة.

و موافقاً لذلك نجد في التقرير الذي كتبه " بليني " Pliny للإمبراطور الروماني " تراجان " عام 112م. أن المسيحيين كانوا معتادين أن يلتقو قبل طلوع الفجر، و يرتلوا تراتيلاً للمسيح كإلـه.

و مع كتابات بولس التي أعقبها تدوين الأناجيل المتشابهة ثم إنجيل يوحنا، بدأت تظهر صورة تجسدية و تحيط شيئاً فشيئاً بشخصية عيسى. و هكذا تحولت الفكرة المجازية لتصبح عقيدة ميتافيزيقية (ما وراء طبيعية).

و بالرغم من أن ادعاء أن عيسى هو الله كان ذا صلة بموضوع خارجي معين و أنه أُخِذَ على أنه " حقيقة "، إلا أن هذا الادّعاء لم يكن في الحقيقة موضوعاً من مواضيع المعرفة التجريبية لمعاصري عيسى، و لم يظهر في أي كتابات نعرفها قبل سنة 55 م على أقدم تقدير ([13]).

لقد وقعت منذ القديم و عبر الزمن نقاشات و مجادلات حادة بين العلماء و المتخصصين في الدراسات اللاهوتية حول أنه هل أطلق على عيسى لفظ الله أو هل سمي عيسى بالله في كتاب العهد الجديد أم لا؟

و من المعروف أن عيسى سمي بأسماء مختلفة أو أطلق عليه ألقاب مختلفة في كتاب العهد الجديد، من بين تلك الألقاب لقب: " الرب " Kyrios و "الملك" و "الكاهن" و "النبي" و "ابن الإنسان" و "ابن الله" و "الكلمة" و "المسيح" و "المسيح المنتظر" و "مسيا" و "المسيح المتألِّم" و "المسيح المبشر به" (أعمال الرسل 3 / 20) و "العبد المتألِّم" و "حمل الله" و "عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" و "رئيس الكهنة" و "الوسيط" و "المخلص" و "الله".

و هناك في كتاب العهد الجديد عديد من الفقرات تتضمن دلالة ضمنية على ألوهية عيسى و لكن ليس هناك إلا بضع فقرات فقط استخدمت فيها لفظة "الله" Theos بكل صراحة و وضوح للإشارة إلى عيسى.

إن اطلاق لفظ "الرب" Kyrios على عيسى ليس مماثلاً لإطلاق لفظ "الله" Theos عليه لأن أقصى ما في لفظة الرب هي أنها تضع عيسى في مقام قريب جداً من الله.

إن لفظة " الرب " قد توحي أو قد تؤكد الألوهية و لكنها ليست مرادفة أو معادلة للفظة " الله " ([14]) و لا يوجد هناك أي دليل على أن عيسى أطلق عليه لفظة " الله " في المرحلة المبكرة من فترة تدوين تعاليم و شرائع و سنن كتاب العهد الجديد ([15]).

و إذا أرَّخنا فترة كتابة " العهد الجديد " في الفترة بين سنة 30 - 110 ميلادية فإنه من الواضح تماماً أن استخدام لفظة " الله " في حق عيسى، إنما ينتمي للنصف الثاني من هذه الفترة الزمنية ليصبح متكرراً فقط في آخر هذه الفترة.

و الأناجيل الثلاثة المتشابهة لم تطلق أبداً لفظة " الله " على عيسى و حتى الإنجيل الرابع لا يطرح عيسى على أنه يقول عن نفسه بصورة واضحة ومحددة أنه "الله". كذلك الخطب و الكلمات التي ينسبها سفر "أعمال الرسل" في كتاب العهد الجديد لبداية الكنيسة المسيحية لا تتكلم عن عيسى أبداً بصفته "الله".

إن فكرة أن عيسى هو " الله " Theos بدأت تظهر على السطح في الفترة بين 55 و 85 م، ثم أصبحت واضحة وصريحة في الرسالة إلى العبرانيين

و بولس لم يستخدم تعبير أو لقب الله للدلالة على " عيسى " في أي من رسائله التي كتبها قبل 58 م ([16]).

و من المحتمل أن يكون بولس قد أطلق على عيسى لفظ " الله " في رسالته إلى أهل رومية (9 / 5) إلا أن هذا ليس أمراً أكيداً بل فيه نقاش كثير يرجع إلى تحديد موضع النقطة و الفاصلة في هذا المقطع من كلام بولس ([17]).

إن عبارات بولس المختلفة حول المسيح تحتوي على عناصر تجسيدية، و أحد أهم هذه التعبيرات هو استخدامه لعبارة " ابن الله " Huios Theuo التي تتكرر 15 مرة في الرسائل البولُسية ([18]).

و يقع عيسى في أقرب صلة ممكنة مع الله في عبارة بولس المفضلة " ابنه " التي تشير لتشابه بين الله و عيسى.

و بالنسبة لبولس، يُـعَدُّ إرسال الله لابنه عملاً فريداً (أي وحيدأ استثنائيا) و فاصلاً (حاسماً). و هو عمل جديد تماماً، و إن كان يعتبر استمراراً للعلاقة بين الله و إسرائيل و علامة على اكتمالها.

ففي رسالته إلى أهل غلاطية يكتب بولس قائلاً، " أرسل الله ابنه.... ليفتدي (أي ليخلص) الذين هم تحت الناموس (أي الشريعة الموسوية) " (إصحاح 4/ فقرة 4) ويشبه هذا كثيراً ما جاء في إنجيل يوحنا (إصحاح 3 / فقرة 17): " لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم به بل ليخلص به العالم ".
و في الرسالة إلى أهل غلاطية لا يطرح موضوع إرسال الابن على أنه عمل ليس له خاصية زمانية محددة بل هو عمل فريد (وحيد) و محدد و حصل " لما جاء ملء الزمان " [ أي الوقت المحدد له ] (رسالة بولس إلى أهل غلاطية: إصحاح 4 / فقرة 4).

و هذا لا يوجد له مواز في اليهودية الهيلينية، لأنه حتى بالنسبة لكتاب " حكمة سليمان " لا توجد فيه، عند الكلام عن اللوجوس (العقل الكلي)، هذه الأخروية و اللاهوت الخلاصي الذي يتضمنه كلام بولس.

بالنسبة لبولس، فكرة " إرسال الابن عند اكتمال الزمان ليخلص البشرية " تمثل قـلب التجسد في الـ Christology (أي علم طبيعة المسيح)*.

كل البشرية - حسبما يرى بولس - واقعة تحت سيطرة " الخطيئة " و "الموت". و الله وحده يمكنه أن يكون المحرر لها من هذا السجن، و هو وحده يمكنه أن ينقذ الإنسان و يخلصه.

و فوق ذلك، لم يكن في وسع الله أن يفعل ذلك إلا إذا دخل ـ بنحو ما ـ إلى حالتنا البشرية، لأن عدو الإنسان ليس شيئاً خارجاً عنه بل هو في داخله. و بناء عليه فالعمل التخليصي لله - يجب أن يتم من خلال إنسان.

فكما أنه بسبب إنسان واحد - آدم - وجدت الخطيئة و الموت، فكذلك من خلال إنسان آخر، و هو المسيح، يجب أن يأتي الخلاص و الحياة.

و عليه، فإنسانية عيسى المسيح و ألوهيته، كلاهما ضروريان لا بد منهما في نظر بولس.

ويعلق هـ. ج. سكويبس H. J. Schoeps على هذا قائلاً " لقد كان بولس هو الذي - لأول مرة - متفكراً في الشخصية المسيانية (أي المسيح المنقذ الموعود) لعيسى استخرج من ذلك اللقب التشريفي (أي اللقب الذي يدل على منصب رفيع ومنزلة سامية فقط) تأكيداً لوجودٍ كوني حقيقي و رَفَعَه إلى مستوى ميثولوجي [ أسطوري ] من التفكير " ([19]).

و يشير مارتن هينجل Martin Hengel إلى أن المفهوم البولسي لعيسى، مطابق لكائن إلهي موجود قبل الزمان، وسيط بين الله و مخلوقاته، و بالتالي " ابن الله " ([20]).

أما إنجيل يوحنا - الذي كتب في حوالي 90 - 95 م. فإنه يعتنق فكرة التجسد بل يذهب أبعد من ذلك حتى يقف على درجة فقط دون الدوكيتزم ([21]) الكامل.

و لقد أعلن كاتب هذا الإنجيل عن هدفه من كتابة إنجيله بكل صراحة و وضوح فقال: " و أما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله " (يوحنا إصحاح 20 / فقرة 3).

و في إنجيل يوحنا هذا نجد الـ Christology (أي العلم المتعلق بحقيقة طبيعة المسيح) قد تطور لدرجة عالية وصار صريحاً جلياً حول طبيعة المسيح حين قال عنه بكل صراحة أنه " الله " في قوله: " و كان الكلمة ا لله " (يوحنا: إصحاح 1 / فقرة 1) فلم يقل " كانت الكلمة مع الله " أو " كانت الكلمة إله "، بل قال بكل وضوح ودون مواربة: " و كان الكلمة ا لله ".

و كذلك يروي، في الإصحاح 20 / الفقرة 28 من هذا الإنجيل، عن توما (تلميذ المسيح) أنه قال مخاطبا المسيح: " ربي و إلهي! ".

و يؤكد إنجيل يوحنا بكل صراحة و وضوح أيضاً أن التجسد هو " الله " فيقول: " و الكلمة صار جسداً و حل بيننا و رأينا مجده كما لِوحيدٍ من الآب مملوءاً نعمة و حقـاً " (1 / 14). ([22])

ولا توجد في هذا الإنجيل حادثة التجلي: أي تغير هيئة المسيح على الجبل ([23])، لأن المجد الثابت و المتواصل لعيسى الأرضي لا يترك مجالاً لمثل هذا الأمر.

و فيه إشارات لكون عيسى كلي العلم Omniscient ([24])، و لكون قدرة عيسى، غير البارزة، و لكن الموجودة الكامنة، قدرة لا حد لها. بل حتى فيه تصوير لعيسى على أنه لا يعتريه التعب و لا الجوع و لا العطش، و عرضٌ لعيسى كشخص ذي سيطرة و تسيير كاملين و مستديمين لكلا ما يفعله و ما يحصل له. حتى موته، يعرض كعمل يتم بإرادة و اختيار و تصميم مدروس، لأنـه: " عالم أن الأب قد دفع كل شيء إلى يديه و أنه من عند الله خرج و إلى الله يمضي" (يوحنا: إصحاح 13 / فقرة 3).

وينفرد الإنجيل الرابع بالتصريح باتحاد الأب والابن حيث يقول: " أنا و الأب واحد " (يوحنا: إصحاح 10 / فقرة 30) ويقول " كل من رآني فقد رأى الأب " (يوحنا: إصحاح 14 / فقرة 9) ([25]).

و هكذا يتجسد " الوسيط " في " عيسى " الذي من خلاله يظهر الله، و من خلاله يُخبَـر عن هدف الله و تتم إرادته المقدَّرة سابقاً منذ الأزل. إن الإنجيل الرابع يصور بألفاظه عيسى ممجداً أو متألهاً بشكل كامل.

أما الأناجيل الثلاثة المتشابهة [ أي أناجيل متى و مرقس و لوقا ] فإن عيسى يرى محدوداً ضمن حدود حياته الأرضية و منصبه الرسالي.

إن الأناجيل المتشابهة تعبِّر عما قاله عيسى و ما فعله في حين أن إنجيل يوحنا هو تفسير لما يمثله عيسى، فهو يعبِّر عن فهم المعنى الألوهي لعيسى، ذلك الفهم والتصور الذي تطور و نما في الدوائر المسيحية في نهاية القرن الميلادي الأول.

إن ما يبدو أنه حصل خلال ستين عاماً بعد وفاة عيسى، كان أن لغة البنوّة لله - أي عبارة " ابن الله " - ازدرعت - أي نقلت من تربة لتربة أخرى، حيث أنها نقلت من تربة الفكر اليهودي إلى تربة جديدة هي تربة العالم الإغريقي الروماني، فأخذت معنى جديداً عندما مدت جذورها في تلك التربة الجديدة.

فالمعنى الذي فُـسِّـر به عيسى في البداية وعُـبِّر عنه بأن: عيسى كان المسيح الذي قال عنه الله في كتاب العهد القديم " أنت ابني الحبيب "، هذا المعنى، أي هذه البنوة لله، صارت تفهم في الجماعة المسيحية الجديدة على أنها تفيد أن عيسى هو الابن المولود الوحيد لِلَّه مما يؤدي لكونه من نفس جوهر الله ([26]).

لقد كان الترحيب و التهليل لفكرة عيسى إلهاً استجابة طبيعية لجماعة تؤمن بإله يُعتقد فيه أن من شأنه أنه يكشف عن نفسه للإنسان و يعرِّف نفسه للإنسان. ومن هنا نجد إنجيل يوحنا يحدثنا عن الابن الوحيد الذي أظهر اللهَ وعرَّفَه فيقول: " ا لله لم يره أحد، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّـر " (إصحاح 1 / 18) و يخبرنا أيضاً أن الابن " خرج من عند الآب و أتى إلى العالم " (إصحاح 16 / فقرة 28).

في الفترات الأخيرة من زمن تدوين العهد الجديد، يمكننا أن نلاحظ تطوراً في النظرة إلى عيسى من النظر إليه على أنه لوجوس الله (أي كلمة الله) إلى النظر إليه على أنه نفس " ألوهية الله " بعينها، فلم يعد عيسى - بالنسبة لكثير من مسيحيي هذه الفترة الزمنية المتأخرة مجرد لوجوس (كلمة) بل صار يعتبر " الله " نفسه!

إن الاعتراف بعيسى إلهاً كان اعترافاً بسلطة و ربوبية حكم الله في و عبر و بواسطة، عيسى.

و هذا ما نجده مصرحاً به بكل وضوح في الرسالة إلى العبرانيين التي كتبت في حوالي 95 - 105 م (1).

كل هذه التصورات التجسدية عكست الاعتقاد بأن عيسى كان الله متجسداً. و هو الاعتقاد الذي جُعِلَ فيما بعد نصاً صريحاً في قانون الإيمان المسيحي الذي أعلنه مجمع نيقية المسكوني (2) في عبارات مثل " مولود غير مخلوق، مسا و للأب في الجوهر، به خلق كل شيء ".

وهكذا تم تطبيق فكرة: " هبوط الله لعالم الدنيا وتجسده " على شخصية عيسى التاريخي، مبدلاً النظرة إليه من نظرة إلى عيسى الإنسان التاريخي إلى النظرة إلى " مسيح " الكتاب المقدس يعني " المسيح الإله ".

إذا كان من المحتمل أخذ فكرة " ابن الله " حرفياً، فإن ذلك يمكن له بسهولة أن يكون مضللاً. ثم عندما ترتبط هذه الفكرة بفكرة الولادة العذرية (أي من غير أب) فإنها تبدو و كأنها تفسير للعلاقة بين عيسى و الله، بنحو مماثل تماماً تقريباً للعلاقة بين الإنسان و أبيه البشري، أي بالمعنى الجيني (الوراثي) والفيزيولوجي، فيبدو ذلك و كأنه حقيقة بيولوجية حول جوهر طبيعة عيسى!

و لكن فكرة " ابن الله " ليست تفسيراً (شرحاً) لـِ " ماهية " عيسى، بمقدار ما هي تعبير عن " ماذا يعني " أو " ما هو مغزى و دلالة " عيسـى. إنه عندما تؤخذ عبارة " ابن الله " بمعناها الحرفي فإنها تصبح تأكيداً لتركيبة أسطورية، محولةً عيسى إلى مخلوق: نصف بشر، نصف إله، مثل الآفاتارات (تجسدات الإله فشنو عند الهندوس) أو مثل أنصاف الآلهة الأسطوريين في اليونان القديم.

و العقيدة الخلقيدونية ([27]) التي تنص على أن المسيح ذو طبيعتين (هما طبيعة اللاهوت و طبيعة الناسوت التقتا في ذاته) تؤدي إلى إعطاء صورة نوع من الكائنات هو مزيج و خليط معجون، لكائنين مع بعض. و تميل هذه الصورة لتأكيد و إثبات قوى أسطورية شبيهة بقوى السوبرمان لعيسى، و لا سيما لمعجزاته و هبوطه للأرض.

لقد كان الرأي السائد في الكنيسة المسيحية خلال الخمسة عشر قرناً الماضية هو أن عيسى كان شخصاً واحداً ذا طبيعتين.

يصف آرمينيوس ([28]) عيسى بأنه: " ابن الله و ابن الإنسان و مؤلف من طبيعتين" ([29]). و يعلن " لوثر" ([30]): " أننا نمزج الطبيعتين المتمايـزتيـن في شـخص واحد و نقول: الله هو إنسان و إنسان هو الله " ([31]).

أما كالفن ([32]) فقال عن المسيح: " إن الألوهية فيه توحدت واتحدت تماماً مع البشرية بنحو احتفظت فيه كل طبيعة من الطبيعتين بخواصها المتميزة كاملة تامة، و بنفس الوقت شكلت الطبيعتان مسيحاً واحداً فقط! " ([33]).

هذا و لكن كتاب العهد الجديد لم ينص أبداً على أن عيسى ذو طبيعتين.

إن فكرة الطبيعتين في عيسى هي في الواقع من نتاج الفكر الفلسفي اليوناني المؤسس على مقولات " المادة " و " الجوهر " و يمكن كذلك أن تكون هذه الفكرة ثمرة و نتيجة لوصف ثنائي لعيسى: الأول: وصفه كبشر و الثاني: وصفه كإله.

منذ عام 381 م. كتب " غريغوري " رئيس أساقفة القسطنطينية، أن عيسى كان: " مختوناً في الجسد غير مختون في الروح، أرضياً و بنفس الوقت سماوياً، مادياً (ملموساً) و بنفس الوقت غير مادي (غير ملموس)، مدرَكاً و غير مدرَك " ([34]).

و يقول " لورين بويتنر " Loraino Boettner: " انطلاقـاً من كون عيسى ذا طبيعتين، و حسب أي طبيعة منهما تكون في ذهننا، فإنه يصح أن نقول أن عيسى غير متناه (لا محدود) أو نقول متناه (محدود)، موجود منذ الأزل أو ولد في بيت لحم، إنه كان كلي العلم أو كان محدوداً في علمه " ([35]).

و يؤكد أغسطس سترونغ Augustus Strong أن اتحاد الطبيعتين في شخص المسيح هو بالضرورة مبهم (أي ملغز يستحيل فهمه) لأنه لا يوجد له أي نظير أو مثيل في تجربتنا ([36]).

و هنا نقول: ألا يمكن أن يكون السبب في كون عقيدة التجسد في المسيحية، لغزاً و سراً، هو أن ما تحول فيما بعد إلى عقيدة كنسية (إكليركية) كان في الأصل مزجاً لصورة تاريخية مع صورة اسطورية خيالية؟؟؟.

الموضوع الثاني أيضاً الذي ينبغي طرحه في هذا المجال هو البحث عما إذا كان من الممكن، من وجهة النظر المسيحية، أن يكون هناك أكثر من تجسد واحد، كما تؤكده الديانة الهندوسية؟

في إنجيل يوحنا: يعد المسيح حوارييه قائلاً: " و أنا أطلب من الأب فيعـطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد " 14 / 16. ويقول: " لكني سأراكم ثانيـةً فـتـفـرح قـلوبكم " 16 / 22.

دعونا نعترف بأن خجلة (نقطة ضعف أو لا معقوليّة) المسيحية لم تكن فكرة التجسد، ولكنها كانت صلب المسيح و قيامته (من الموت). (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 1 / 23) (1).

إن عدم قابلية التصديق بالتجسُّـد، لم يكن بدرجة عدم قابلية التصديق بمسيح منتظر يُصْـلَب ثم يُبعـث حياً!

و فوق ذلك فإن العقيدة المسيحية بتفرد عيسى و استثنائيته (أي أنه كائن وحيد لا يتكرر مثله أصلاً)، و موقف الكنيسة من اقتصارية (أي انحصارية) التجسد بعيسى فقط، كان العقبة التي لا تزلل أمام التوحد بين كنيسة مسيحية مثل الكنيسة الرومية الكاثوليكية، و بين أي دين آخر غير مسيحي.

على ضوء ما ذكر يمكن أن نقدر كم هو مثير أن نرى الشخصية اللاهوتية اللامعة في الكنيسة الكاثوليكية، أي القديس: " توما الأكويني " ([37]) يبحث بكل اهتمام في كتابه الموسوم بـ Summa Theologica، عن إمكانية حصول تجسدات أخرى لله (غير تجسده بالمسيح).

والأكثر إثارة للدهشة من هذا أن نجد - خلافاً لما قد نتوقعه - أن النتيجة التي يصل إليها القديس توما في بحثه ذاك هي إمكانية حصول تجسدات أخرى لله!

ففي كتابه المذكور: Summa (الجزء 3 / المسـألة 3، الفقرات 5 ـ 8 والمسألة 4، الفقرات 4 ـ 6) يبين توما، أنه كان من الممكن لكل من الأب أو روح القدس أن يتجسد، تماماً مثلما فعل الابن.

فكان يمكن لهما أن يصيرا بشراً عوضاً عن، أو إضافة لـ: "الابن".

ويبحث " توما " في إمكانية حصول تجسدات لكل إلـه من الله الثالوثي و يستنتج أن ذلك ممكن!

كما أنه يصنع نظرية حول مقدرة الأب والإبن على تجسدات متكررة و يصل أيضاً إلى نتيجة إيجابية في هذا الأمر. و يختتم توما بحثه هذا قائلاً: " إن الابن، الكلمة الأزلية، قادر تماماً على أن يتجسد مرة أخرى، في روح و جسد فرد إنساني آخر مختلف، مولود من أم أخرى أو مولود من أم و أب، من جنس مختلف و عرق مختلف و في بلد آخر و زمن آخر متكلماً لغة أخرى و مستخدماً نموذجاً من الصورة البشرية مختلفة تماماً (أي عن المسيح) ليـبشّـر برسالته و يشرح العلاقة بين الله و العائلة البشرية " ([38]).

و يتحدث توما عن أن الابن لم يختر الطبيعة الإنسانية بسبب الصفات الخاصة التي يملكها عيسى، و يقول: " الله لم يصر إنساناً لأجل أن يكون يهودياً ذكراً من أهل القرن الأول الميلادي ذا طول و عرض و لون كذائي... " ([39]) بل الله اختار الإنسان لأجل أن تكون لِـلَّه طبيعة جنس الإنسان ككل.

و يرى توما الأكويني أنه كان من الممكن للأب و الابن و روح القدس أن يتجسدوا ثلاثتهم جميعاً مع بعض و في وقت واحد في إنسان فرد واحد فقط، أو في عدة أفراد.

إذا عرفنا ذلك فإننا لا نحتاج إلا إلى إشارة فقط إلى أنه كانت هناك فعلاً ادعاءات أخرى للتجسد في المسيحية، بالإضافة للمسيح!

مثال واحد على ذلك هو: " آن لي Ann Lee" (1736 - 1784م) مؤسس " الجمعية المتحدة للمؤمنين بالظهور الثاني للمسيح " ([40]) و المعروفة باسم الهزازين ([41]).

" آن لي " هذا، ادَّعى أنه الظهور الثاني للمسيح و أنه تجسد الأب السماوي و الأم الإلهية!.

و في الثلاثينيات من هذا القرن ادعى الأب المتبحر في اللاهوت " جورج بيكر "، أنه الله، و قد اعتبره كذلك فعلاً أعضاء حركة " السلم الإلهي " Divine Peace Mission Movement.

و في السبعينات من هذا القرن، نظر أعضاء " كنيسة توحيد المسيحية في العالم " Unification Church إلى مؤسس جمعية " روح القدس لتوحيد المسيحية في العالم " “Holy Spirit Association for the Unification of World Christianity “ إلى الأسقف الكاهن " سَـنْ ميونغ مون "Sun Myung Moon على أنه: رب المجيء الثاني !

و هكذا نرى أنه على الرغم من أن المسيحية اعتقدت دائماً أن عيسى هو التجسد الفريد و الوحيد لله، فإن توقع مجيئه الثاني فتح المجال لادعاءات إضافية للتجسد !


--------------------------------------------------------------------------------

([1]) Mercea ELIADE , Archaic Myth and Historical Man , in Mc Cormick Quarterly (1965) , p. 31.

([2]) يقصد المؤلف بكلام الله هنا: الكتـاب المقدس Bible الذي يشمل العهد القديم و العهد الجديد و يعتقد المسيحيون أنه بتمامه إلهام معصوم من الله.

([3])This image belongs to Norman Perrin, The New Testament: an Introduction (New York: Harcourt , Brace Jovanovich , Inc , 1974) p. 23.

([4]) نحن المسلمون نؤمن تبعا لما أخبرنا الله تعالى به في قرآنه المجيد ـ الكتاب الوحيد على وجه الأرض الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و الذي قامت كل الدلائل العقلية و التاريخية على كونه وحيَ الله تعالى المحفوظ من كل تبديل و تحريف ـ بأن سيدتنا مريم العذراء وَلَدَت عيسى وهي عذراء لم يمسسها بشر، و ليس في هذا أي غرابة، فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم، لقادر على خلق عيسى من أم دون أب.

([5]) J. K. mozley , The Doctrine of the Incarnation (London: Geoffrey Bles , 1949) pp. 53 - 4

([6]) لم أتبين وجه الحكم بخرافية مدة الأربعين يوما للطوفان! فهي مد ة ممكنة و لا تختلف مع نواميس الكون، و أما موضوع الخلق في ستة أيام (وليس سبعة كما ذكره) فلعل ما في العهد القديم من جعلها أياما من أيام الأسبوع الذي نعرفه هو الذي جعل المؤلف يعتبرها مدة أسطورية، أما القرآن الكريم فـرغم أنه ذكر أن الخلق تم في ستة أيام إلا أنه لم يحدد ماهية هذه الأيام، بل فيه ما يدل على أن اليوم قد يكون مرحلة زمنية، فقد وصف القرآن أحد الأيام بأن مقداره عند ربك خمسون ألف سنة! و وصف يوما آخر بأنه ألف سنة مما تعدون، مما يفيد أن اليوم في اصطلاح القرآن لا يعني بالضرورة اليوم الأرضي الحالي ذي الأربع و العشرين ساعة، بل هو مرحلة و فترة زمنية محددة ما.

([7]) Norman Perrin. op. cit , pp , 29 - 33

([8]) نحن المسلمون نقطع بكل يقين و اطمئنان ـ كما أخبرنا ربنا في القرآن الكريم ـ بأن عيسى عليه السلام لم يدع الألوهية قط، بل على العكس أكد عبوديته لله تعالى دائما، و هذا ما تشهد به حتى الأناجيل الحالية، التي تنقل لنا تأكيد عيسى الدائم على أنه بشر رسول و أن الله تعالى إلهه و معبوده، و ليس في أي منها أي عبارة و لا جملة واحدة تفيد أن عيسى ادعى أنه الله أو أنه أمر الناس بعبادته!.

([9]) الأَوْلى أن يقال بعض كتاب العهد الجديد فقط و ليس كلهم فكتَّاب الأناجيل المتشابهة متى ومرقس ولوقا، و التلاميذ بطرس و يعقوب و يهوذا أصحاب الرسائل الملحقة بالعهد الجديد لم يذكروا فيما كتبوه أي نص صريح في تأليه المسيح أو أنه الله المتجسد، وليس هذا فحسب بل فيما قالوه عبارات تفيد أنهم كانوا يرون في المسيح عبداً مخلوقا مطيعاً لله تعالى مبعوثاً من قبل الله تعالى. نعم في رسائل بولس كما في إنجيل يوحنا لا سيما افتتاحيته، عبارات تفيد أن المسيح إلهٌ (و لكن ليس الله الآب نفسه) تجسد و جاء لعالم الدنيا لفداء البشر و تخليصهم.

([10]) مجرد وصف عيسى بأنه المسيح ليس فيه أي أسطورة و لا تأليه! لأن لفظة المسيح معناها: الممسوح بالزيت المقدس والمكرس من الله، أي المرسل من الله تعالى، ونحن كمسلمين لا نشك في أن هذا حق و واقع، أما كون آباء الكنيسة يفهمون منه تأليهاً للمسيح فهذا أمر ابتدعوه هم ولا دلالة في لفظة " المسيح " بحد ذاتها عليه، ولعل هذا التصور الكنسي المسيحي لمعنى " المسيح " هو الذي جعل المصنف يراه تعبيراً أسطورياً لاهوتياً، و نحن معه في هذا إذا أراد به التصور الكنسي المسيحي للكلمة لا التصور الاسلامي.

(*) أي ابن الله الحقيقي المولود من الله الذي جوهره من جوهر الأب كما تعلم الكنيسة، أما إعلان المسيح أنه ابن الله بالمعنى المجازي أي العبد البار الطائع لله الذي اجتباه الله وتبناه وأنزله من نفسه منزلة الابن الحبيب فإن هناك عدة عبارات في الأناجيل تؤكد ذلك.

([11]) Jacques Guillet , S , J , The Consciousness of Jesus (New York, Newman Press, 1972) , p , 7
([12]) هذه شهادات علمية تحقيقية هامة جداً يقدمها لنا هذا المحقق والباحث المتجرد. و هي تنطبق تماماً مع ما يقوله الإسلام عن عيسى عليه السلام.

(*) هذا حسب الاعتقاد السائد لدى النصارى، أما الواقع والحقيقة فهي ما قاله الله تعالى في تنزيله الحكيم " و مَا قـَتَلُوهُ و مَا صَلَبُوهُ و لَكن شُبِّهَ لَهُمْ " سورة النساء / 157.

([13]) Gordon Kaufman , Systematic Theology , p. 189.

([14]) إن دراسة متأنية لتعاليم بولس وسائر الحواريين من كتاب العهد الجديد تبين أنهم ما كانوا يعنون بلفظة "الرب" التي يطلقونها على المسيح إلا معنى السيد المعلم، وإطلاق ربي على الحبر والحاخام المطاع، أمرٌ معروف في اليهودية ومذكور مرتين في إنجيل يوحنا.

([15]) إن هذا النفي القاطع من قبل هذا البحاثة المتتبع له مغزاه الكبير

([16])Raymond Brown , Jesus God and Man (Milwaukee: Bruce Publishing Co. , 1967) p. 30

([17])Joseph A. Fitzmyer, S. J. 19 th Annual Scripture Institute Adress, Georgetown University Washington , D. C. , 21 - 25 June 1982

([18]) المطالعة المتأنية و المقارنة لرسائل بولس تبين بوضوح: أن مقصوده من عبارته "ابن الله" ليس إلا معنى مجازيا فحسب، وأقصى ما يدل عليه كلام بولس منها: أن عيسى تجسدٌ للكائن الملائكي العلوي الذي هو أول الخليقة ومنه وبه و فيه خلق الله سائر الكون و هو بمنزلة الابن الحبيب لله. (راجع الفصل الثالث من كتابي: "الأناجيل الأربعة و رسائل بولس و يوحنا تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن " ففيه تفصيل واضح لهذه النقطة).

* علم قائم بذاته يبحث في شخصية المسيح من حيث طبيعته و كنهه وكيفية ارتباطه بالله وهل هو ذو طبيعة واحدة أم طبيعتين ناسوت و لاهوت و ما حقيقة صفاته وأفعاله...الخ.

([19]) H. J. Schoeps , Paul: The Theology of the Apostle in the light of Jewish History (1961) p. 150

([20]) Martin Hengel , The Son of God (Philadelphia: Fortress Press , 1976) p. 15

([21])Docetism هو الاعتقاد بأن جسم عيسى هو مجرد ظاهر وخيال ليس غير، أي أنه ليس لعيسى حقيقة جسمية إنسانية واقعية، بل هو كائن إلهي مجرد محض.

([22]) لا تفيد الآية التي ذكرها بأن التجسد هو الله ذاته، بل تذكر أن التجسد هو لكائن آخر غير الله هو بمنزلة الابن الوحيد للآب الذي ملأه الأب نعمة و حقا!.

([23]) التجلي Transfiguration: أي تغيير المظهر أو الشكل الخارجي، وهو يشير لحادثة صعود عيسى للجبل برفقة بطرس ويعقوب ويوحنا (أخاه) وهناك " تغيرت هيئة عيسى قدامهم و أضاء وجهه كالشمس و صارت ثيابه بيضاء كالنور و إذا موسى و إيليا قد ظهرا لم يتكلما معه " وهذه الواقعة رواها أصحاب الأناجيل الثلاثة المتشابهة: متى: 17 / 1 - 8 و مرقس: 9 / 2 - 13 و لوقا: 9 / 28 - 36.

([24]) أي كون علمه غير محدود أي أنه بكل شيء عليم.

([25]) الحقيقة أن هذه العبارات إذا لوحظ فيها السياق الذي وردت فيه يفهم منها بوضوح أن الاتحاد فيها مجازي و ليس حقيقياً أي أنه اتحاد في المحبة و الإرادة و الهدف والغرض والخط والموقف.. الخ. وقد وردت في نفس الإنجيل عبارات مماثلة عن الاتحاد بين الله وعباده المؤمنين الصالحين، ومن الواضح أنه ليس المراد منها الاتحاد الحقيقي.

([26]) نقطة في غاية الأهمية و الدقة، خاصة بعد ما عرفنا الخلفية الثقافية الوثنية لشعوب الشرق الأدنى القديم و تصورهم عن زعمائهم و أباطرتهم بأنهم أبناء الآلهة حقيقة.

(1) نجد ذلك في الإصحاح الأول من تلك الرسالة فقرة 3 و 8 عندما تقول عن عيسى: " الذي وهو بهاء مجده (أي مجد الله) و رسم جوهره و حامل كل الأشياء بكلمة قدرته و أما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك ".

(2) عقد في نيقية عام 325 م.برئاسة الإمبراطور الروماني المتنصر قسطنطين اجتماع للأساقفة حضره 2048 أسقفاً من أنحاء العالم لتحديد من هو المسيح وما طبيعته ومناقشة ما أكده آريوس ومن معه من نفي كون عيسى هو الله ورغم أن الأكثرية كانت مع آريوس إلا أن المجمع خرج بقرار يضلل آريوس و يعلن ألوهية المسيح وأنه من نفس جوهر الله الأب!.

([27]) هي التي قررها مجمع خلقيدونية المسكوني الذي عقد عام 451 م للرد على مقالة ديسوقرس بطريرك الإسكندرية القائل أن المسيح ذو طبيعة واحدة هي الألوهية المحضة و قد كفر المجمع ديسوقرس و قرر نفيه عن الإسكندرية و قرر أن المسيح شخص واحد ذو طبيعتين!.

([28]) أرمينيوس Arminious: (1560 - 1609) لاهوتي هولندي بروتستانتي. انتقد تعاليم كالفن (وبخاصة في مسألة القضاء والقدر) و قال بإمكانية الخلاص لجميع البشر.

([29])The Writings of James Arminius , Trans., Nichols & Bagnall (Grand Rapids Michigan: Baker 1956). Disputation 34 , 2 , 84.

([30])مارتين لوثر Martin Luther: (1483 - 1546) راهب ألماني تزعم حركة الإصلاح البروتستانتي في ألمانيا.

([31]) Martin Luther: Word and Sacrament, Vol III in Helmut Lehman (ed.), Luther`s Works , Vol 37 (Philadelphia: Fortress Press , 1961) p 212.

([32]) كالفن هو: اللاهوتي الفرنسي جون كالفن John Calvin (1509 - 1564): مؤسس المذهب الكلفيني. نشر راية الإصلاح البروتستانتي في فرنسا ثم سويسرا.

([33]) Jhon Calvin, Institutes of the Christian Religion, Trans. Henry Beveridge (Grand Rapids, Michigan: Eederman, 1957) II, 14, 1.

([34])Henry Bettenson , Documents of the Christian Church , 2nd edn. (London: Oxford University Press , 1963) p. 64.

([35]) Loraine Boettner, Studies in Theology (Philadelphia: Presbyterian and Reformed , 1947) p. 197.

([36]) Augustus Strong , Systematic Theology (Westwood , N. J.: Revell, 1907) p. 693.

(1) ونص عبارة بولس المشار إليها هو: " و لكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً، لليهود عثرة، و لليونانيين جهالة " ومعناها أننا نعلن و نعظ بالمسيح مصلوباً و إن كان هذا سبباً لضلال اليهود و تعثرهم وكان بالنسبة لليونانيين يعد أمراً تافهاً لا معنى له.

([37]) القديس توما الأكوينيSaint Thomas Aquinas (1225 - 1274 م.) راهب و فيلسوف لاهوتي إيطالي، وضع مذهباً فلسفياً خاصاً في المسيحية يعرف بالتومانية.

([38])Dr Quentin Quesnell , " Aquinas on Avatars " Paper delivered at New ERA Conference , Ft. Lauderdale , Fla 3 Jan. 1983 , p. 8.

([39]) Ibid. , p. 5.

([40]) The United Society of Believers in Christ`s Second Appearing.

([41]) Shakers: الهزازون: طائفة دينية مسيحية أمريكية سميت بذلك لأن حركات الجسد تشكل جزءا من العبادة عندها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites