الفصل الثانيالتناقض بين عيسى وبولس لدى قادة الفكر وكبار رجال اللاهوت وبعض أهل الإختصاص
ما يثير العجب العجاب هو كيفية ثبات رجال اللاهوت على هذا الدين رغم وجود الهوة السحيقة بين تعاليم عيسى وبولس، وهذا أمر مؤكد منذ بزوغ فجر المسيحية الأولى، الأمر الذي يعرفه جيداً كل رجل دين إلا أنه يخفي عن شعب الكنيسة
لذلك كان لزاماً علينا هنا أن نشير بكل وضوح إلى التناقض الحاد بين أفكار عيسى وتعاليمه وبين مثيلتها عند بولس، الأمر الذي أقره أكبر المفكرين وأبرزوه جيداً .
وأذكر من بين غير رجال اللاهوت المتخصصين بعض الأسماء القليلة منها : اللورد بولنجبروك (1678 - 1751)، غاندي، المحامي والفبلسوف كارل هياتي (1833 - 1909)، وباحث الطبيعة البروفسور أرنولد هايم ( 1882 - 1961 )، وهو قد وجد أن بولس قد ابتعد بعقيدة الذنب المتوارث هذه تماماً عن تعاليم عيسى (إرجع إلى:"صورة العالم تحت مجهر باحث في الطبيعة " Das Weltbild eines Naturforschers " إصدار عام 1944 صفحة 146)، وكذلك أيضاً الفيلسوف فرانتس نيتشه، وباحث الطبيعة زيهر إيمانويل شفيدنبرج، وبرنارد شو وعالم اللغة فريدريش توديكوم، وأيضاً شيلنج، وجوته، و شيلر، وفولتير . وهناك الكثير غيرهم .
ولانبالغ إن قـلـنـا إن أكبر قادة الفكر منذ عصر الإصلاح الديني قد توصلوا لمثل هذه النتائج . أما بالنسة لرجال الدين فهناك العديد من الأسماء التي تملأ الأفق، وهم يؤكدون وجود هذه التناقضات التي بين عيسى وبولس ويثبتونها ومع ذلك فهم أشهر من كتب ذلك وبسببه تعرضوا للنقد أو الخطر ونذكر منهم هذه الأسماء تبعاً للترتيب الأبجدي :
أكرمان، بارت، باور، براون، بورنكام (في كتاب (عيسى) صفحة 207)، بوسّــن في كتابه (Kyrios) صفحة (7) وما بعدها وأيضاً كتابه (طبيعة الدين) Das Wesen der Religion، وبروكنر في كتابه (تمهيد) صفحة (282)، وبولتمان في (تقاليد الإنجيل المتوافقة (Synoptische Tradition الطبعة الثانية إصدار عام 1931 صفحة 154) ودام، ودايسمان، وحاوكل، وجيزبريشت في (ملامح تاريخ الدين الإسرائيلي Grundzüge der israel. Religionsgeschichte)، وجريم، وهيبرلين، وهارنَك في (تاريخ العقائد Lehrbuch der Dogmengeschichte ) وفي كتابه (الرسالة Die Mission) وهارتمان، وفون هيز في (تاريخ الكنيسة " Kirchengeschichte ") وهاوسرات، ويوليشر في (تمهيد " Einleiterng " صفحة 300) وكال، وكلوسترمان في (إنجيل مرقس " 470 - Markus صفحة 109 على سبيل المثال)، وكنويف، وكولر، ولاجارد، ولويز، ومارتي، ومارتج، ونيستل، فون أفربيك، وبفيستر، ورادينهاوزر، ورجانس في ( تاريخ المسيح " Die Geschichte der Sache Christi " صفحة (122) وما بعدها)، ورنكه، ورينان، ورايماروس، ورينجلينج، وروزنبرج، وشينكل في (قاموس الكتاب المقدس "Bibellexikon")، وشونفيلد، وشوبسس، وشورر في (المسيحية من أجل العالم وبه " Christentem für die Welt und mit der Welt " صفحة 1949)، وشتاوفر، وتيريل، وفاينل، وفايتسيكر، وفينديش، وفولفر، وفيردي وسَارند وكذلك أيضاً إدوارد سَــلر .
وقد بدأت سلسلة هؤلاء الكتاب المناهضين لبولس منذ وقت الإصلاح الديني، فظهر حينئذ: فيلكيف، ويعقوب ليفر، ورويشليكن، وإيرازموس وكارلشتات، وبيترو بمبو .
وأهم من هؤلاء هو كلماتهم في هذا الموضوع التى تملأ المراجع والمجلدات، حيث إن المراجع التي تناولت هذه الموضوعات لا تعد ولا تحصى .
والأعجب من ذلك أن شعب الكنيسة لا يعرف عن ذلك شيئاً مطلقاً ! لذلك نذكر هنا على الأقل بعض الكلمات التي تبين قيمة هذه البراهين :
لاحظ بولينجبروك Bolingbroke (1678 - 1751) وجود ديانتين في العهد الجديد : ديانة عيسى وديانة بولس .
ويؤكد براون Braun - بروفسور علم اللاهوت - أن بولس قد تجاهل العنصر الإجتماعي في كتاباته تماماً، لذلك نراه قد تجاهل حب الإنسان لأخيه، وقد أرجع إليه إنتشار الرباط الواهن بين الكنيسة والدولة، والذى أدى إلى قول كارل ماركس: إن الدين المسيحي أفيونة الشعوب (الجريدة اليومية لمدينة زيوريخ Tagesanzeiger إصدار 18/2/72 صفحة 58) .
أما غاندي Gandhi فيرى أن بولس قد شوه صورة عيسى إرجع إلى كتاب Offene Tore إصدار عام 1960 صفحة 189).
أما رجل الدين والفلسفة المربى باول هيبرلين Paul Häberlin والتي ترتفع كل يوم قيمته العلمية، فلم يتردد في تعريف الديانة البولسية بأنها قوة الشر نفسها . فقد كتب مثلاً في كتابه الإنجيل واللاهوت "Das Evangelium und die Theologie" صفحات 57 -67 ما يلي:
" إن تعاليم بولس الشريرة المارقة عن المسيحية لتزداد سوءً بربطها موت المسيح عيسى فداءً برحمة الله التي إقتضت فعل ذلك مع البشرية الخاطئة. فكم يعرف الإنجيل نفسه عن ذلك !
" إن تعاليم بولس الشريرة المارقة عن المسيحية لتزداد سوءً بربطها موت المسيح عيسى فداءً برحمة الله التي إقتضت فعل ذلك مع البشرية الخاطئة. فكم يعرف الإنجيل نفسه عن ذلك !
فهو ينادي برحمة الله وبرِّه الإجباري، الأمر الذي لا يمتد بصلة إلى مقومات البر، ولا إلى الرحمة نفسها، حيث لا تجتمع الرحمة والبر الإجبارى. كما نرى أن إدخال الشيطان في العلاقة بين الله والإنسان لها مكانة خاصة في تعاليم بولس بشأن الخلاص، فنجدها ترتبط عنده بآدم، ومرةأخرى بواقع "الشريعة اليهودية" . .(وسنعود لهذا الموضوع بإستفاضة فيما بعد) "إن أفكار بولس عن الفداء لتصفع بشارة الإنجيل على وجهها. فمسيح الإنجيل هو الفادي، ولكن ليس له علاقة بذلك الفداء الذي يفهمه بولس والذي أصبح مفهوماً بسبب خصائصه المطلقة. أما مَن يعتنقها فيكون بذلك قد ابتعد عن رسالة المسيح عيسى .
فالإنسان لا يمكن أن يتقبل رسالة الله المتعلقة بالرحمة الإجبارية، ويؤمن في نفس الوقت أنها شيطانية، الأمر الذي تنادي به تعاليم بولس بشأن العلاقة بين أهمية المسيح عيسى وبين آدم .
وليس للمرء أن يفهم إرسال المسيح عيسى بصورة غير مسيحية أي كوحي منزل من الله ليزيل الخطيئة التي ارتكبها آدم في حق الله، وليس للمرء أيضاً أن يتعلق بفكرة الفداء هذه، لأن من يقترف مثل هذا الذنب يكون مصراً على اتباع الخطيئة الشيطانية ." " ونؤكد مرة أخرى أن تعاليم بولس الشيطانية هذه - تلك التي تبْرَأ منها المسيحية والتي تنادي بالخلاص من خطيئة آدم - لن تخفَّ حدتها، بل ستزداد بتعاليمه عن الرحمة . " (وسنعود لهذا الموضوع باستفاضة) .
"وأقوى التعاليم عن اللاهوت الشيطاني وآخرها هي نظرية بولس بشأن اختيار الرحمة، وليس مهماً أن يختلف معها النشاط التبشيري للرسول، بل تكمن الأهمية في أنها تعارض الإنجيل نفسه . فإذا ما كانت رحمة الله إجبارية، فلابد لها إذن أن تشمل البشرية كلها، فلو لم يتنصر كل الناس في المستقبل، فسيرهق هذا المسيحي دائماً بدافع الحب في أن يكسب غير الأبرار إلى هذا البر، وإذا ما فشل فسيعتبر هذا قضاء الله، ولكنه سوف يراه بمثابة واقع إلهي."
"وهذا يعني أنه سوف يؤمن برحمة الله. ولكنه سيتألم لأنه ليس كل المؤمنين بها من الأبرار، ويزداد هذا الألم عند إيمانه بأن كل شيء جميل أمام الله، سواء كان هذا كائناً موجوداً أو سيحدث هذا فيما بعد فهو حسن عند الله، فكيف لنا أن نصدر حكماً ضد ذلك."
"أما تعاليم بولس فتقضي بالنقيض من ذلك "(ولنا عودة في هذا الموضوع). وكتب كذلك رجل اللاهوت الذي يتمتع بشهرة خاصة أدولف هارنك في كتابه تاريخ العقائد Die Dogmengeschichte صفحة (93) موضحاً أن: "الديانة البولسية لا تتطابق مع الإنجيل الأساسي".
كذلك انتهى رجل الدين إيمانويل هارتمان Emanuel Hartmann إلى أن مسيحية اليوم (وخاصة تعاليم الفداء) لا علاقة لها بالمسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولكن ترجع أصولها إلى مؤسسها بولس .
ويوضح بروفسور اللاهوت هاوسرات Hausrat في كتابه (بولس الحواري) " Der Apostel Paulus " أنه لو كان بولس قد بشر فعلاً بتعاليم المسيح عيسى ، لكان وضع أيضاً ملكوت الله في مركز بشارته . فهو يبدأ ديانته التي اخترعها بمفهوم كبش الفداء، فهو يرى أن الله قد أنزل شريعته لتزداد البشرية إثماً على آثامها .
فما تقدره حق تقديره عند عيسى لا تراه يمثل شيئاً مطلقاً عند بولس، الذي تهبط الأخلاق عنده تحت مستوى الشريعة، بدلاً من أن يكملها، كما أراد عيسى ، لأن بولس كان يكره في الحقيقة كل جهد ذاتي .
والأسوأ من ذلك أن تعاليم بولس قد صدقها الناس في الوقت الذي فعل فيه المسيح عيسى كل شيء من أجلنا .
أما البروفسور دكتور كارل هيلتي Carl Hilty - فيلسوف ومحامي سويسري شهير- قد لفظ تعاليم بولسس عن الفداء الدموي نهائياً، ووصف تعاليمه عن " اختيار الرحمة " أنها " أحد أكثر أجزاء العقيدة المسيحية ظلاماً " ارجع إلى كتابه ( السعادة : Das Glück الجزء الثالث صفحات 167، 363 ) .
ويؤكد بروفسور اللاهوت الشهير يوليشر Jülicher في كتابه ( بولس وعيسى Paulus und Jesus إصدار عام 1907 صفحات 52 / 72 ) أن الشعب البسيط لا يفهم تخريفات بولس الفنية ( اقرأها " التحايل والســفـســطة " ) ولا المتاهات التي تدخــلنا في أفكاره، فلم يعتبر عيسى نفسه مطلقاً أحد صور العبيد، ولم يتكلم البتة عن قوة تأثير موته : أي موته فداءً، ولم يشغله غير فكرة وجود أرواح طاهرة قبل موته (وقد تبنى بولس هذه الفكرة أيضاً).
كذلك لاحظ يوليشر من القرائن التاريخية أن النقض كان موجها دائماً إلى بولس (ص13). ويضيف أيضا - وهو مُحِقٌ في ذلك - أنه كان من المتوقع أن نُعطي لعيسى الأولوية في ظل هذه التناقضات، إلا أن الكنيسة قد فعلت العكس تماماً، أي أنها فضلت بولس عن عيسى .
كذلك توصل سورين كيركيجارد Sören Kierkegaard إلى أن السيادة التي نالتها ديانة بولس، ولم يتساءل عنها أحد (للأسف) هي التي غيرت العقيدة المسيحية الحقة من أساسها، وجعلتها غير مؤثرة بالمرة (إقتباس من المرجع السابق لــ Ragaz صفحة 19).
كذلك وجد يواخيم كال Joachim Kahl - وهو أيضاً من رجال الدين - أن كل ما يسيء المسيحية فترجع أصوله إلى بولس .أما الكاتب يوحنا ليمان31أ Johnnes Lehmann فقد قال فىنهاية بحثه إن بولس قد قلب تعاليم عيسى رأساً على عقب (ص151 من كتابه Jesus Roport).
كما ذكر في كتيب ( المسيحية ليست ديناً جديداً Das Christentum war nichts Neues) أن تعاليم بولس عن الفداء بل وديانته نفسها ليست إلا نسخة متطابقة مع الأديان الوثنية التي سبقت المسيحية ( مثل ديانات : أنيس، وديونيس، ومترا وغيرهم ) . وتمثل تعاليمه هذه قلب رسالته .
والعارفون لهذه القرائن يرون أن عيسى قد رفض هذه الأفكار تماماً،إلا أن نفس هذه الأفكار قد حول بولس بها المسيحية إلى أحد الأديان الوثنية الغامضة، وبذلك نتجت ديانة جديدة تماماً، ولم يكن بإمكانه الإبتعاد عن ديانة عيسى وتعاليمه بصورة تفوق مااقترفه، ومن يُعارض ذلك فلن يلق من أمره إلا الحيرة التامة وسيكون غير موضوعى بالمرة .
وأكثر الناس معرفةً لهذه القرائن هو رجل الدين الكاثوليكي السابق والباحث الديني ألفريد لوازي Alfred Loisy، وهو قد ساق لنا التناقض الصارخ بين رسالة عيسى وتعاليم الفداء البولسية في أعماله الشاملة : le sacrifice Essai historique sur إصدار باريس عام 1920 وأيضاً Les mystères païens et le mystère chrètien إصدار باريس عام 1930.
وقد صرح لوازي في أعماله المذكورة أن عيسى لم يكن لديه أدنى فكرة عن مثل هذا الدين الوثني الغامض، الذي أبدله بولس برسالته وعيسى منها بريء (وهو هنا يتكلم عن تحوُّل، وإبعاد، وتغيير).
فقد أقام بولس المسيحية على قاعدة تختلف تماماً عن تلك التي بنيت عليها رسالة عيسى ، لذلك تحولت رسالة عيسى إلى ديانة من ديانات الخرافات الأسطورية، فقد جعل بولس عيسى في صورة المخلّص الفادي التي تعرفها الأديان الأخرى الوثنية، وفيما بعد سيطرت أسطورة الفداء هذه على إنجيل عيسى الذي لم يعتنقه العالم القديم، واعتنق بدلاً منه خرافة أخرى لا علاقة لعيسى بها .
كذلك تحدث لوازي عن تحول بولس وإنسلاخه، وأكد أن فكرة هذه الديانة الوثنية الغامضة لم تكن فكرة عيسى ، الأمر الذي أبدل روح الإنجيل بروح أخرى تماماً.
وقال القس البروتستانتي كورت مارتي Kurt Marti ؛ إن بولس قد غيّر رسالة عيسى تماماً (Exlibris Heft إصدار ديسمبر 1973 - صفحة 5) .
وقال بروفسور اللاهوت الشهير فرانتس فون أوفربيك Franz Von Overbeck : "إن كل الجوانب الحسنة في المسيحية ترجع إلى عيسى ، أما كل الجوانب السيئة فهي من عند بولس " إقتباس من Ragaz من كتاب ( هل هذا إصلاح أم تقهقر ؟ Reformation vorwärts oder rükwärts? " صفحة 18 .
وقال بروفسور اللاهوت الشهير فرانتس فون أوفربيك Franz Von Overbeck : "إن كل الجوانب الحسنة في المسيحية ترجع إلى عيسى ، أما كل الجوانب السيئة فهي من عند بولس " إقتباس من Ragaz من كتاب ( هل هذا إصلاح أم تقهقر ؟ Reformation vorwärts oder rükwärts? " صفحة 18 .
ويرى بفيســترفي كتابه (المسيحية والخوف Das Christentum und die Angst صفحة 400) أن الإصلاح الديني هذا فضَل التمسك بتعاليم بولس عن الرسالة الحقة لعيسى .
كما لاحظ بروفسور اللاهوت الشهير بفلايدرر O. Pfleiderer- بجانب العديد من الرسائل الأخرى المتعلقة بالموضوع - أن وجهة نظر بولس عن عملية الفداء الأسطورية بموت عيسى كانت غريبة تماماً عن الأمة المسيحية الأولى ( كما كانت غريبة أيضاً عن عيسى عليه السلام) (إرجع إلى نشأة المسيحية Die Entstehung des Christentums صفحة 146) .
وقد ذكر أشياء كثيرة منها:
"إن وجهة النظر الغريبة التي تتعلق بموت المسيح عيسى تقضي بموت المسيحين ونشورهم بطريقة غامضة لم تكن معروفة عند الأمة المسيحية الأولى لذلك لم يَشتق مصطلح الفداء من كلمة التضحية .
وهنا لابد أن نتساءل: أين نبحث عن تفسير أسباب ذلك؟
ويمكن الإجابة عليه بأن الإنسان يمكنه أن يجدها لدى تجربة بولس الشخصية لتحوله الداخلي الذي أدى إلى إيمانه بالمسيح .
وهنا يفرض نفسه سؤال آخر : هل تكفي هذه التجربة الشخصية لتوضيح هذه النظرية، التي قد ساعد أيضاً في انتشارها التخيلات الشعبية عن الإله الذي يموت ثم يحيى من جديد؟ تلك التخيلات الشعبية عن أدونيس وأتيس وأوزوريس كانت منتشرة في ذلك العصر في الشرق الأدنى. وهي نفس العقائد ونفس الطقوس المعروفة اليوم في المسيحية مع إختلاف الأسماء فقط فقد كان الإحتفال الرئيسي بالإله أدونيس يتم ربيعاً في العاصمة السورية أنتيوخيا حيث عاش بولس لمدة طويلة . فكانت تجرى مراسم الإحتفال كالتالي : أولاً يموت الإله أدونيس ("الرب")، ويدفن جثمانه ( تمثال ) ويصاحب عملية الدفن عويل النادبات، وفي اليوم الثاني تنطلق البشارات معلنة أن الإله يعيش ثم ترفع صورته في الهواء33.
وفي عيد قيامة الإله أتيس كان القس يدهن فم النائحات بالزيت قائلاً : " لكم الأمن والسلامة أيها المؤمنون، فقد نجا الإله، ولنا أيضاً خلاص من المحن ".
وهذا يعني أن نجاة الإله من الموت هي الضمان لنجاة أتباعه، أما أن يصل هذا عن طريق الإشتراك الغامض في موت الإله إلى الإشتراك في حياته، فهذا ما صورته الأسرار الغامضة عند أتيس وإيزيس وميترا عن طريق هذه الطقوس التي كانت تعرض بصورة رمزية الموت ثم تنزل إلى الآخرة، ثم تصور صعود المتوفي مرة أخرى، وكان يطلق على هذا التدشين " الولادة الثانية لإستمرار الخلاص الجديد " وأيضاً " يوم الميلاد المقدس " .
وفي أحد الطقوس الدينية للإله ميترا يقول المتوفي: "أيها الإله : إني أحتضر على أمل الولادة الثانية، حيث أُرفع، ثم أموت في ذلك الوضع، ثم أتحرر من الموت عن طريق الولادة التي تنجب الحياة، ثم أتخذ الطريق الذي وهبتني إياه، كما خلقت الأسرار وحولتها إلى شريعة "34 .
ومن الملفت للنظر أن وجود هذا التشابه الكبير في متن وطقوس نظرية بولس الغريبة عن موت ونشور المسيح عيسى ومن مات معه أو نُشِرَ معه من الذين عُمِّدوا بإسم المسيح عيسى أكبر من أن يفكر الإنسان في تأثُر الأخير بهذه الوثنية الخرافية .
كذلك يُرجع بروفسور اللاهوت الشهير ليونارد رَجاسَ Leonhard Ragaz إرتداد الكنيسة عن إنجيل عيسى الحقيقي إلى ديانة بولس . فنراه يذكر " البولسية " مقابل المسيحية الحقة، كما لاحظ من بين أشياء أخرى أن " واقع تاريخ المسيحية يثبت أن بولس كان يحتل دائماً المقدمة بينما يتراجع المسيح عيسى عنه " (هل هذا إصلاح أم تقهقر؟ Reformation vorärte oder rükwärts? صفحة 18).
ويذكر كذلك أن " رجال الدين المعتدلين لا يفهمون بولس من الإنجيل، بل العكس هو الصحيح " (إنظر المرجع السابق صفحة 19). ويضيف أن بلوهارت أيضاً قد قال إنه لا ينبغي أن نضع بولس فوق عيسى .
أما موعظة الجبل التي تمثل قلب رسالة عيسى فليست لها أية أهمية عند بولس، بل إنه قد نقضها تماماً في رسالته إلى أهل رومية (وهو الخطاب الذي قال عنه لوثر إنه يُعد بمثابة الإنجيل الصحيح) .
كذلك تناول الصراع بين عيسى وبولس (صفحة 35)، وقد نصح في كتيبه Sollen und können wir die Bibel lesen und wie? (هل لنا وهل يمكننا قراءة الكتاب المقدس؟ وكيف؟) أن " نراع الفرق الجذري بين عيسى وبولس" (صفحة 22).
كما فصّل (في كتابه تاريخ المسيح) "Geschichte der Sache Christi" أن الإنحراف الكبير الذي أودى إلى نهاية المسيحية ليرجع أساساً إلى بولس (صفحة 122) .
أما رينان Renan فقد وجد في عصره أن تعاليم عيسى مختلفة تماماً عن تعاليم بولس (ارجــع إلى كتــابه "الحــواريون" "Die Apostel" صفحة 193 طبعة Reclam).
وكذلك تحدث بروفسور اللاهوت رينجلينج Ringeling في كتابه " الأخلاق " "Ethik" عن سفسطة بولس المتحايلة (صفحة 15).
أما الكاتب الكاثوليكي ألفونس روزنبرج Alfons Rosenberg مؤلف في علم النفس واللاهوت - فقد تناول في كتابه (تجربة المسيحية Experiment Christentum" إصدار عام 1969) موضوع بولــس وأفرد له فصــلاً بعنوان "من يقذف بولس إلى خارج الكتاب المقدس؟ " وقد قال فيه :
"وهكذا أصبحت مسيحية بولس أساس عقيدة الكنيسة، وبهذا أصبح من المستحيل تخيل صورة عيسى بمفرده داخل الفكر الكنسي إلا عن طريق هذا الوسيط .
وهذا لا يثبت فقط مقدار الحجم الكبير لهذا الحواري ( بولس ) بل وخطورته أيضاً. فإن كان بولس قد نشر تعاليمه فقط دون تعاليم عيسى ، فإلى أين كانت إذن وجهتنا؟ فربما لا نكون مسيحيين بالمرة بل بولسيين؟
كما يشهد بأهمية بولس الذي أصبح دون قصد مؤسس العقيدة المسيحية وذلك من خلال خطابات الإرشاد التي أرسلها إلى الطوائف المختلفة التي أسسها هو نفسه، وتُعَد رسالته إلى سَالونيكي هي أقدم ما نملكه له من أعمال .
ومما لا شك فيه أن بولس كان لديه نبوغ ديني . وحتى لو ظهر في تاريخ المسيحية تلاميذ للمسيح عيسى بن مريم عليهما السلام اشتهروا بالورع مثل فرانتس فون عزيزي، إلا أنه لم يصل مطلقاً لنفس الدرجة التي وصل إليها المبشر ( بولس ) ذو النشاط الذى لايكل، والذي به أنهك نفسه دون مبالاة لتغيير صورة عيسى "كما أرادها هو".
فهو ظاهرة ليست لها مثيل، فعن طريقه انتشرت في عشرات قليلة من السنين بشارة الإنسان الإله عيسى المسيح، وأهميته للبشرية كلها كفاديها ومخلصها، وكذلك أيضاً شاعت أهمية موته ونشوره عبر أجزاء كبيرة من منطقة حوض البحر المتوسط .
وهو كذلك الذي أسس الطوائف المسيحية في بلدان حوض البحر المتوسط غرباً وشرقاً، وهو أيضاً الذي كون أول نظام طائفي، على الرغم من كون هذا النظام متخلفاً، كما ساهم في تكوين الكنيسة أكثر من أي حواري آخر، عن طريق نشاطه الدؤوب الذي لا يكل لنشر هذه المسيحية الوثنية التي أنشأها هو نفسه .
كما اســتطاع تكوين مفهوماً عن المســيح استمر بعد ذلك ألفين من السـنين عن طريق رسـائله التي أصــبحت فيما بعد جزءاً لا يتجزأ مـن الكتاب المقــدس (وتم هذا بالطبع بمساعدة تلاميذه).
وبذلك كون بولس ديانته، التى جاءت خليطاً من عناصر غير متجانسة - وهي بداية المسيحية - كأحد صور الخرافات والأساطير القديمة، كما جاءت من مصطلحات الرواق الأغريقي، ومن حملته المليئة بالكره على الشريعة، وكذلك من تأويله الغامض لمسألة موت المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام على الصليب ونشوره .
وعن طريقه تم أولاً تفسير أقوال المسيح عيسى ، وبذلك كان هو أيضاً أول من دمرها، حيث لم يشر في لاهوته على الإطلاق إلى رسالة عيسى قبل قيامه - وهذا من خصائص تعاليمه - ولم يشر في تعاليمه إلا إلى عيسى التاريخي فقط في أربعة إستشهادات هي : (كورنتوس الأولى 10 : 7 وما بعدها ؛ 9 : 14 ؛ 11 : 23، 25 ؛ سَالونيكي الأولى 4 : 15 - 17) .
ومع ذلك لا تشير جملة منهم إلى قلب رسالة عيسى عن مجيء ملكوت الله. ولم يرو لنا بولس أيضاً شيئاً مطلقاً عن عيسى . فهو لم يكن يعرف شيئاً عن ذلك المعلم، النبي، فاعل المعجزات، المحب الذي كان يتجول على أرض فلسطين .
لذلك نراه يتحدث فقط - وبدون كلل -عن "المسيح الذي رُفع" و "ابن الله" و "الملك" الذي يتم الفداء به عن طريق موته ونشوره .
وكذلك يرجع إلى بولس أيضاً أن فهمت الكنيسة التعميد على أنه موت المسيح عيسى وقبره ثم نشوره، وأنه صُلب فداءً للبشرية كلها .
ويضيف روزنبرج قائلاً : "إن هذا التحول الكبير - الذي يُعد بمثابة تغريب وتشويهاً" لبشارة عيسى السلسة" تحت التأثير السىّء الذي سببته أحاديث نهاية العالم اليهودية ونظريات الفداء الهيللينية - ظهر في رسائل بولس وديانته بوضوح كبير .
ويظهر كذلك التحول بين رسالة عيسى وشرحها عن طريق بولس حيث إن عيسى قد بشّر بقرب حدوث ملكوت الله في أحاديثه وأفعاله، بينما تمت رسالته - عند بولس وحده - بعد النشور وتحوّل الزمن الأزلي وبداية البركة والسلام بموت عيسى ونشوره وارتفاعه دون المساس بالإختلافات العظيمة والتصورات المختلفة". (G. Bornkkamm )
"وبهذا تغيرت العقيدة المســيحية تقريباً من أســاسها بصــورة جوهرية وقد ساعد في ذلك أيضاً خلفاؤه - الحواريون - وأســطورة الخلاص الســلبية عن طريق موت عيسى فداءً عن البشــرية، حتى ولو كان هذا شـريط تغـيير محـتوى الرسالة على أساس التعـمــيد .
وبذلك تحول اهتمام بولس من حياة عيسى المثالية، تلك الحياة جالبة الخير، إلى الخلاص عن طريق موته، وبهذا تحول عيسى إلى " الإنسان الإلهي " معلم وصديق البشرية، المعبود الثاني المقدس .
وإذا ما كان المؤرخون قد أثبتوا منذ زمن بعيد أن صورة عيسى ليست إلا صورة لكثير من آلهة الشرق المشهورين، الذين ماتوا ثم نشروا - لدرجة أنه جمع في "أسطورته الدينية " أساطير الألهة أتيس وأدونيس وميترا وديونيسوس وآلهة أخرى في ريعان شبابها، اشتهرت بجلب الخير والبركة - فتعاليم عيسى إذن ليست جديرة بالقراءة، ولا تستحق حياته الإهتمام طالما أننا نعلم هذا جيداً " .
" إن الديانة المسيحية التى نشرها بولس بخياله الشعريّ الجريء لتربط إنسانية عيسى بن مريم عليهما السلام الإلهي بأساطير الشرق الأدنى عميقة الغور التي تتعلق بالمخلص الفادى الذي مات ثم قام منشوراً " .
" إن الديانة المسيحية التى نشرها بولس بخياله الشعريّ الجريء لتربط إنسانية عيسى بن مريم عليهما السلام الإلهي بأساطير الشرق الأدنى عميقة الغور التي تتعلق بالمخلص الفادى الذي مات ثم قام منشوراً " .
" لذلك جاءت خرافة بولس لا تهتم بحياة عيسى بنفس القدر الذي تهتم فيها بموته، بل أقل، وبذلك توصل بولس إلى فهم خاطيء - رغم أنه رائع - لموت عيسى وهو أنه مات تضحيةً لأجل الجميع : " . . . . . . . . . إن كان واحد قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذا ماتوا، وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام " ( كورنثوس الثانية 5 : 14 ) " .
ويواصل روزنبرج قائلاً : " وعلى الرغم من انتقال هذا الإهتمام - الذي جعل ظاهرة "الكنيسة" ضرورية ويمكن تحقيقها - إلا أن بولس كان ذو قوة مبدعة، نادرة الوجود، وذو خيال موهوب، لذلك نرى رسائله تنبض بالأفكار والخواطر كما تتدفق منها تخطيطاته العظيمة.
ولأن بولس لم يهتم بالمسيح عيسى حسب الجسد - مع أنه كلما إزداد إرتباطه بالأرض كلما إزدادت عظمته - ولم يهتم إلا بوجوده الأزلي ككلمة خُلِقَ كل شيء من خلالها، ثم وجوده بعد ذلك كإله ثم رفعه للسماء .
" جاءت صورة عيسى بعد ذلك كتخطيط عظيم لــ "المسيح العالمي" الذي نراه اليوم فقط في كتب تاريخنا، والذي أشار (تايلهارد) Teilhard de Chardin إلى صورته البشرية العظيمة التي تطورت من المسيح إلى نقطة النهاية " .
"ونرى في رسائل بولس التحويلات الدينية والترانيم المؤثرة بجانب العديد من الكتابات المتعلقة بالعقيدة. ومن هذه الترانيم ترنيمة الحب الكبيرة (بالإصحاح الثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس) التي يمكن وضعها بلا أدنى شك في مصاف ترانيم الأنبياء .
"أما مايزعج تلاميذ عيسى في نصوص بولس هو التأرجح الدائم لمستوى التعاليم وتضاربها التي لا يمكن جمعها في معنى واحد، لأنه بجانب المرتل الذكي، فإن هناك المتعصب المتحمس الذي يريد أيضاً أن يتقدم للخطابة، وبجانب العقلاني يظهر السفساط الفريسيّ .
"ولا يمكننا أن نفهم كيف استعان هذا المبشر المتلبس بمسوح المسيح بالوسائل المهذبة - كم أتمنى أن أتجرأ وأقول الوسائل الملعونة - التي كان يستعين بها الأحبار في العصور القديمة لكسب إيمان الناس بالمسيح .
"ولا يمكن أن نفهم أن بولس لم يلاحظ في حماسه هذا أنه يرد الناس بذلك إلى نفس أجواء المعبد ( بيت العلم ) اليهودي، والذي بسبب تعاليمه المادية البحتة اضطر عيسى إلى الخروج إلى العراء لبث تعاليمه التي أراد أن تصل إلى القلوب .
"وهكذا تمكن بولس من وضع السموم لديانة عيسى - التي سُمَّيَت فيما بعد بإسم المسيحية - عن طريق استخدامه الممتاز لنفس الوسائل التي كانت تستعمل من قبل في العصر العتيق للديانة اليهودية المريرة .
"وكانت النتيجة أن جاء هذا الجــدل الغريب المعقد، الذي أصــبح من خصائص اللاهوت المســيحي لـكل المـلل، وعلى الأخص إنســان ذلك العصر الذي ليس لديه مطلقاً الإستعداد أن يتحمل أعباءً إضــافية، عليه أن يتحملها إذا لم يكن هناك تدقيق متزن ليقظــة العقل وجلائه، الأمر الذي يكرهه على الحروب من الجماعات الكنســية، خوفاً من أن يتقبل مثل هذا الفكر العقيم. لقد وصـل الناس إلى حالة ســيئة أبعدهم فيها بولــس عن المســيح بدلاً من أن يقربهم إليه " .
وفي النهاية اهتم روزنبرج بالتناقض الظاهر بين عيسى وبولس في مجال الحب والسلطة فأسهب، وكان من بين أقواله :
" كل كلمات الحب التي قالها عيسى تشهد بشعوره بالسمو والحرية تجاهها، وعلى النقيض فإن بولس قد اتخذ موقفاً دفاعياً واعظاً ضد الحب، بل حاول الحد من تأثيره، ولم يسمح من الحياة الجنسية إلا بقدر الإحتياج حتى " لا يحترق المرء " فقوله: "فخير للمرء أن يتزوج بدلاً من أن يحترق" يملأه البغض الحقيقي الذي يقدمه في صورة وعظ.
ويبدو أنه في النصف الأول من اشتغاله بالتبشير بقرب رجوع المسيح قد ساعد في الحط من قيمة الحب : فعلام الإنجاب وتكوين أُسر إذا كان على القريب العاجل سيجيء ملكوت الله كمظهر من مظاهر الآخرة !
وعندما تبين خطأ البشارة بقرب قدومه، وتمسك بموقفه المناهض للمتعة كارهاً "واستحدث للناس التحلل من الشريعة وأوجد الحماس اللازم لذلك، نراه يكاد يُجن من الغيظ والحِمْيَة إذا تعرض لموضوع الشهوة، حتى إنه يتمنى لو كان بإمكانه تعليق بر الإنسان وسلامته بالإبتعاد عن ذلك حتى يضمن ألا يفعلها إنسان، لذلك نجد أن مصطلح الخطيئة عنده متمثلاً في الجنس" (هانس بلوهر).
ولم تُحط الشبهات أفكاره الشيطانية فقط، ولكنها أحاطت موضوع الحب كاملاً، ومنذ ذلك ويسيطر عليه إما النقص وإما الإفراط . لذلك إقتضب نيتشه نتيجة موقف بولس القهري هذا قائلاً: " إن المسيحية أعطت الحب سماً ليشربه، ولم يمت منه، فهو سقيم من يومها " .
وفي الحقيقة إن سلطة بولس التي كانت تعلو سلطة عيسى داخل اكنيسة قد أدت إلى أنه - على الأقل حتى العهد القريب من وقتنا الحاضر - قد أصبح من المستحيل استخدام عطية الله للحب بشكل منزه عن الغرض .
ومن هنا تكونت على حياة المســيحيين الجنســية غمامة ســوداء لزجة بســبب تعاليم بولس لذلك لا غرو - إن قلنا - إن أعمال الإنسـان المعاصر تجاه تحرير الحب قد خرجت يصاحبها العنف والإفراط والغلو، لأن ضغط الكبت الذي أحدثه بولس في الحياة الجنســية كان كبيراً جداً لدرجة إضطرت المرء إلى مجابهته بقوة عن طريق الإفراط في الإنفعالات التي ســببت أضراراً بدورها للقطب الآخر .
ولن يهدأ الوضع الحالي ويَصْفى إلا إذا تراجعت الكنيسة بصورة نهائية عن الإتهام الموجه لطاقة الحب وكبته، الأمر الذي اكتسبته الكنيسة من تعاليم بولس .
أما بشأن وضع السلطة والحكم فيختلف عيسى جذرياً عن بولس، كما يختلفان في نقاط عديدة، فإن بولس هنا يناقض سيده بصورة بشعة . فعلى الرغم من كون عيسى أحد الثوار إلا أنه لم يهاجم السلطة، ولم يصرح بشرعيتها فقد كان ينظر إلى أصحاب السلطة نظرة واقعية وموضوعية حصفاء .
فتبعاً لإنجيل مرقس ( 10 : 42 ) " أنتم تعلمون أن الذين يحسبون رؤساء الأمر يسودونهم وأن عظماءهم يتسلطون عليهم " فنجد عيسى يعرف ممارسات رؤســاء الأمم وعظمائها تماماً وينصح تلاميذه أن لايكونوا أمثالهم .
وكذلك نجده تجاه الجزية التي تدفع لقيصر ( متى 22 : 17 وما بعدها ) " أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ( 22 : 21 ) : حيث كانت العملات آنذاك تحمل صورة قيصر، وتبعاً لذلك فهو يملكها، وستعود له في صورة ضريبة . لذلك جاء حكمه أنه ينبغي أن يعطي ما لقيصر لقيصر، ولكن أيضاً أن يعطي ما لله لله . وبهذا فهو يضع الحاكم في تضاد صريح مع الله، على الرغم من كونه واقعاً أرضياً .
إلا أن بولــس قد قرر النقيض تماماً : فتبعاً لرســالة إلى رومية 13 : 1 وما بعدها يقول : "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة . لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتَّبة من الله . حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة" يرى أن السلطة العليا من الله. لذلك وجَبَ على كل مسيحي أن يطيعها من أجل الله، وليس تعايشاً مع الواقع الأرضي. ومن أجل هذا نراه يطلق على رجال السلطة وموظفي ضرائبهم "خدم الله" .
والأدهى من ذلك أنهم قد لا يمكنهم الوصول إلى رُقي فكر عيسى - الشاذ في نظرهم ! فبهذه التوجيهات التي تتعلق بحسن تصرف المواطن المتدين قد جلب بولس على المسيحية بلاءً لا نهاية له، وربما حدث حسن التصرف من وجهة نظر القيصر الروماني صاحب السلطة وأتباعه الذين احترس منهم34أ أتباع الطوائف المسيحية بصورة خاصة لأنه تسبب في عدم ثقة المسيحيين حتى عصرنا هذا تجاه موقفهم من الدولة .
ومع ذلك فإن الخنوع والإستسلام الذليل لكثير من المسيحيين يرجع أيضاً إلى بولس، وإذا ما ثاروا وقرروا قتل حاكمهم الطاغية، فهم يفعلون ذلك بدافع من مقاومة ضميرهم البولسيّ الخفيّ . . . . الأمر الذي أدى في النهاية إلى شلل سياسيّ، وإعاقة تحمل الشعب للمسئولية السياسية .
وإذا ما أردنا أن ينتهي هذا الإنفصام الذي لا تُحمد عقباه لدى المسيحيين بشأن إختلاف العقائد الدينية مع العلاقات السياسية الضرورية، فلابد لنا من مخالفة المباديء البولسية التي تفرضها الكنيسة والمتعلقة بألوهية السلطة ورحمة الله بأصحابها تبعاً لرسالة بولس إلى أهل رومية 13: 1 وما بعدها، تماماً مثل ما قام به الأسقف ديبليوس منذ عدة سنوات بصورة جريئة. ولكن لا يُدرج مثل هذا التصرف للأسف إلا ضمن الإستثناءات .
إن آراء بولس بشأن مناح الحياة المختلفة المتعلقة بالحب والسلطة والسياسة لتدمج في نظريتين من النظريات الكثيرة صعبة الفهم لحواري الشعوب هذا الذي استشهد دائماً بعيسى ، ولكنه لم يكن له مطلقاً ما كان لعيسى من طهارة القلب والروح، بل كثيراً ما ناقض معلمه في المسائل الفاصلة .
إن هذا التناقض الذي يغرق تعليمات بولس تجاه مثيلتها عند عيسى لواضحة - ويعرف علماء الدين أيضاً الكثير من المباديء والأراء الخاصة ببولس - قيمه الروحية الخاصة بالحياة المسيحية والخاصة بالمواطنين والتي أصبحت غير مستخدمة، بل أصبحت معاقة وغير صالحة لتأدية الواجبات المنوطة بها .
فهنا وهناك تنهار نظريات بولس وادعاءاته - في السر أكثر منها في العلن - وتخرج عن نظامه، ولكن لا يكفي هذا للقضاء على الإنفصام الذي أصاب المسيحيين، فلابد للكنيسة أن تتنصل من الأسس البولسية - التي لم نذكر منها إلا القليل - والظاهر أن فضيلة الإستقامة لم تتأصل في الكنيسة لدرجة تستبعد معها الضلالات من مناح حياة أتباعها من أجل المسيح عيسى ومن أجل خلاص وسعادة البشر .
ولا يسعنا إلا أن نؤيد أتلبرت شتاوفر Ethelbert Stauffer في قوله: "إني لأحتج على موقف الحواري بولس الإحتكاري في بشارتنا المسيحية.. بل إني لأقاوم وضع الكتاب المقدس كاملاً أو رسالة عيسى في حالة تطابق تام مع رسالة بولس دون فحص".
وعلى أية حال فسيكون هذا الإقدام صعب، حتى ولو تم استبعاد بعض أجزاء فقط من تعاليم بولس من كيان الفكر المسيحي وأخلاقه، لأنه من الممكن أن يؤدي إلى زلزلة مبنى الكنيسة نفسه .
وانطلاقاً من هنا يجب أن يؤخذ في الإعتبار تردد رجال الدين وأصحاب المناصب، على الرغم من أن مثل هذا التردد يدفع دائماً بالكثيرين من المؤمنين إلى ترك الكنيسة، وهم في حالة إزدياد مستمر .
من المعروف أيضاً أن لوثر كان يتمسك ببولس، الأمر الذي يجعلنا نقول اليوم بوضوح إن هذا الإصلاح الديني قد حدث كما لو كان تم هذا في زقاق مغلق، لذلك كانت مسيحية لوثر بولسية أيضاً .
ويقول روزنبرج نقلاً عن هانــس بلوهر Hans Bluher : من المعروف " أن بولس رمى الشريعة إلى خارج الكتاب المقدس . والآن من يقذف بولــس نفسه خارجها؟ فمن الصعب اســتبعاد إنســان يتمتع بأهمية كبرى - إلا أن هذا لابد منه - وإذا ما تم هذا بصورة جذرية، فســيحصل العالم على وعد (قيل مرة في وقت ســيء) يبشــر بالنصر عند ظهور هذه العلامة.
ويصور لنا أحد أشهر علماء اللاهوت البروفسور ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer التناقض بين عيسى وبولس في كتابه ( ملكوت الله والمسيحية Gottes Reich und Christentum صفحة 192 ) قائلاً : وعلى النقيض من المسيحية الأولى فسّر بولس موت عيسى بأنه مرتبطاً بمغفرة الخطايا ( ارجع إلى "الدولة والمسيحية" Staat und Christentum صفحة 276).
وفي الحقيقة إن ألبرت شيفايتزر يعتبر بولس من المتصوفين، ولكنه يرفضه تماماً كمدرس أو أحد أتباع العقيدة المسيحية .
كذلك لاحظ هوج شوفيلد Hugh J. Schofield أن الهرطقة البولسية قد أصبحت أساس الأرثوذكسية (العقيدة المسيحية السليمة)، وبهذا ابتعدت الكنيسة الرسمية عن الطريق المستقيم (استشهاد لدي ليمان في كتابه Jesusrepot صفحة 163) .
أما برناردشو Bernhard Shaw - وهو أحد أصحاب الأقلام الدينية - فقد خلف لنا رأياً هاماً وجديراً بالإعتبار في الوقت نفس، وقد كتبه بأسلوب يختلف عن أسلوب رجال اللاهوت الملتوي الحذر، وقد جاء هذا في كتيب له بعنوان ( آمال المسيحية Die Aussichten des Christentum إصدار برلين عام 1925 ) نعرضه هنا بدلاً من تكراره كثيراً على لسان كُتَاب آخرين، فقد انتهي شــو إلى أن بولس قد قام بنشر تعاليم أخرى تماماً غير التي جاء بها عيسى ، فغير دين عيسى ( صفحة 102 )، وترك ملايين من البشر تحت رحمة سيطرة الخطيئة والخوف منها، بدلاً من أن يقودهم إلى الحرية العظيمة التي كان ينبغي أن يتمتع بها أولاد الله (رومية 8 : 21) كما أراد عيسى وكما وعد بولس أيضاً، حتى كانت فطرتهم أنفسهم مصدر إزعاج لهم، كذلك جدّد فكرة الخلاص القديمة والتي لم يرد عيسى إلا تحرير البشرية منها، أما بولس فقد ألقى على أظهر الناس حملاً ثقيلاً من الخطيئة، بل ورسخه رسوخ الجبال لا يتحرك بدلاً من أن يحررهم منه .
وبموهبته الأدبية صاغ شو الآتي :
" توصلنا إلى أن عيسى لم يكد يطرح تنَين الكفر أرضاً حتى أوقفه بولس على قدميه مرة أخرى بإسم عيسى عليه السلام دون مبالاة" (صفحة 105).
" لا يوجد نصاً على الإطلاق خاطب فيه عيسى البشر قائلاً : " اذهب واخطأ بقدر ما تستطيع، ويمكنك أن تحملني هذه الذنوب " ( صفحة 106 ) .
" كذلك لم ير عيسى أن يسفك دمه حتى يتمكن كل نصاب أو خائن أو فاسق من التخبط في بؤرة الخطيئة، ثم يخرج منها أنصع بياضاً من الجليد، فمثل هذه الكلمات لا يمكن أن تنسب لعيسى ذاته " ( صفحة 106 ) .
وقال أيضاً: "إن مسيحية بولس لتعد بحق أكبر العوامل المشجعة على ارتكاب المعاصي حتى يومنا هذا، ويرجع هذا إلى التقدير الكبير الذي كان يتمتع به " (صفحة 107).
إن الحساب الحاد الذي أجراه شــو مع مسيحية بولس ليحتوي على صيغ أخرى كثيرة غير هذه، كما يحتوي أيضاً على حجج ســديدة، ونحن ننصح أيضاً بقراءة كتب شتاوفر E. Stauffer الذي تعرض في الكثير من مؤلفاته في العصر الحديث إلى التناقضات الواقعة بين عيسى وبولس، منها (عيسى وبولس ونحن Jesus, Paulus und wir إصدار هامبرج 1961) و (رسالة عيسى Die Botschaft Jesu إصدار دالب 1959) و (عيسى : الصورة والتاريخ Jesus Gestalt und Geschichte إصدار دالب 1957 والقدس وروما 1957) .
ومن الكتاب البارزين المميزين في مجال اللغات القديمة التي كتب بها الكتاب المقدس، وكذلك في مجال الدين والحضارة القديمة البروفسور توديكوم Fr. Thudichum الذي أبرز إستحالة تطابق تعاليم عيسى مع مثيلتها عند بولس بشكل حاد، وقد ساق لنا هذا التناقض بإسهاب في كتابه ( التحريفات الكنسية Kiechliche Fälschungen الجزء الثالث، إصدار لايبتسج 1911) تحت عنوان " القديس بولس " .
أما اليســوعي السابق تيرل Tyrell (وقد تم طرده وحرمانه من الكنيسة لهذا السبب) استطاع أن يقول إن البروتستانتية الحرة ( كلها ! ) يجب أن نعترف أن تعاليم الصُّلح بموت عيسى ترجع فقط إلى بولس ( صفحة 68 ) .
كما كان بروفســور اللاهوت الشــهير فانيل Veinel يُعلم دائماً أن نظرية الفداء البولســية لا ترجع إلى عيســى ، بل لم يعرف عنها أية شيء، ولم يســتمر دين عيسى كما أنزل، وكما كان هو يُعلمه، بل تغيرت صورته تماماً بعد موت عيسى مباشرة، فقد طالب عيسى بالتجديد المعنوي، إلا أن هذا قد أصــبح شــيئاً جــديداً بالمــرة (ارجع إلى كتابه "لاهوت العهد الجديد Biblische Theologie des neuen Testaments إصدار عام 1911 صفحات 204 - 210 وعلى الأخص صفحة 187) .
ومن جملة ما لاحظه بروفسور اللاهوت الشهير فيردي Werde أن عيسى لا يعرف شيئاً عن هذه التعاليم التي أصبحت عند بولس أساس دينه الذي بشر به (ارجع إلى ليمان Lehmann في كتابه Jesusreport صفحة 161).
وكذلك يؤكد قس الكنيسة الكبيرة ببازل البروفسور ألبرت فولفر Albert Wolfer أن تعاليم بولس شيء مختلف تماماً عما كان عيسى يعلمه أتباعه، فقد حول بولس الإيمان بعيسى إلى كفر مطلق، ومن تعاليمه إلى تعاليم عنه، وأحل وأبدل كل شيء. (ارجع إلى كتابه: مسيحية الغد Das Christentum von morgen إصدار عام 1949. ارجع مثلاً إلى صفحات 12، 14، 46).
وقال بروفسور اللاهوت الشهير تسَــارنت Zahrndt جملته الشهيرة : "إن بولس هو المتهم الأول في إفساد إنجيل عيسى" (ارجع إلى كتابه : هكذا بدأت بعيسى الناصري Es begann mit Jesus von Nazareth إصدار عام 1960 صفحة 46).
ويقول جونتر بورنكام Günther Bornkamm في الطبعة الثانية من كتابه (بولس Paulus إصدار شتوتجارت لعام 1970صفحة 122): "لم يحاول بولس أن يجهد نفسه بالمرة لبث تعاليم عيسى الأرضي، ولم يتحدث مطلقاً على الرّبى = المعلم عيسى الناصري النبي وفاعل المعجزات، مُجالِس العشارين والخطاة، ولم يتحدث كذلك عن موعظة الجبل أو أمثال ملكوت الله، أو حربه ضد الفريسيين والكتبة، ولم يصادفنا في خطاباته ما هية الصلاة الربانية ولو بصورة عابرة، إلا أن هناك أربعة مواضع فقط ذكرها مختلفة تماماً ولا تمثل صلاة عيسى الحقيقية، وقد ذكرها في (كورنثوس الأولى 7 : 10وما بعدها، 9 : 14؛ 11 : 23، سَــالونيكي الأولى 4 : 15) . . . . . " .
ويقول الطــبيب النـفـســاني فيــلهــلـم لانج أيشباوم Wilhelm Lange Eichbaum في كتابه (العبــقرية والجنون والشهرة Genie, Irrsinn und Ruhm ) : "إن ما نســميه اليوم بالمســيحية ما هو إلا تعاليم إبتدعها بولــس، ويجب أن نطــلق عليها" البولسية " لنقترب أكثر من الحق" .
ويقول المؤرخ الديني فيلهلم نستل Wilhelm Nestle في كتابه (أزمة المسيحية Krisis des Christentums إصدار عام 1947 صفحة 89): "إن المسيحية هي الدين الذي أسسه بولس ليبدل إنجيل عيسى بإنجيله هو " .
ويقول المؤرخ الديني فيلهلم نستل Wilhelm Nestle في كتابه (أزمة المسيحية Krisis des Christentums إصدار عام 1947 صفحة 89): "إن المسيحية هي الدين الذي أسسه بولس ليبدل إنجيل عيسى بإنجيله هو " .
ويقول عالم اللاهوت أوفربيك F. Overbeck في كتابه (من مخلّفات المسيحية والحضارة Christentum und Kultur - aus dem Nachlaß إصدار عام 1919) أن البولسية التي أنشأها بولس ترجع إلى تأويله الخاطيء وتحريفه لتعاليم عيسى الحقيقية، ويرجع إليه هذا التأويل الخاطيء وكذلك تعاليم الخلاص عن طريق موت عيسى فداءً - والتي تمثل قلب المسيحية التي تتبناها الكنيسة إلى حقائق البحث الحديث في اللاهوت وتاريخ الكنيسة، "لذلك نجد أن كل الجوانب الحسنة في المسيحية ترتبط بعيسى ، وعلى العكس من ذلك فإن كل الجوانب السيئة ترجع إلى بولس".
وبتعاليم الخلاص هذه التي تقضي بتضحية الإله بإبنه الأول تمكن بولس من الرجوع إلى عالم الخيال الذي عاشت فيه الأديان البدائية السامية في عصور ما قبل الميلاد، والتي تطلبت من كل أب الفداء الدموي بذبح أول أبنائه، وقد مهد بولس أيضاً الطريق للخطيئة الأزلية والثالوث الإلهي والتي أصبحت فيما بعد من التعاليم الأساسية لدى الكنيسة.
وفي بداية القرن الثامن عشر لاحظ الفيلسوف الإنجليزي اللورد بولنجبروك Lord Bolingbroke ( 1678 - 1751 ) وجود ديانتين في العهد الجديد مختلفتين تماماً : ديانة عيسى وديانة بولس ( مقتبسة من هـ . أكرمان H. Ackrmann في كتابه Einstellung und Kärung der Botschaft Jesu إصدار عام 1961 ) .
كذلك يفرق كل من كانت Kant و ليسـينج Lessing و فيشته Fichte و شيلينج Schelling بصورة حادة بين تعاليم عيسى وتلك التي ابتدعها "الحواري". وهناك أيضاً عدد كبير من اللاهوتيين البارزين والمعاصــرين يتبنون هذه الحقائق ويؤيدونها .
إن بولس هذا المتعصب الذي لا يعرف الصبر له مكاناً والذي تختلف تعاليمه عن تعاليم حواري عيسى بصورة جوهرية لهو "مؤسس التعصب". وقد حفر بتعصبه هذا خندقاً بين "المؤمنين" و "غير المؤمنين"، فلم يكن يعنيه تعاليم عيسى ولا حتى كلامه، ولم يهتم إلا بتعاليمه الذاتية، فقد رفع بولس عيسى على العرش وجعله " المسيح "، وهذا الشخص الذي لم يرد عيسى أن يأخذ مكانه.
وإذا تمكنا اليوم من التأويل السليم والفهم الصحيح للمسيحية، والذي يُمكّننا بدوره من التخلص من التحريفات البينة واسترجاع رشدنا والتوجه إلى تعاليم عيسى الحقيقية، وإلى قلب الدين الخالص، ففي هذه الحالة فقط يمكننا التصالح إنطلاقاً من العلم العميق للقرائن التاريخية مع كل التحريفات عن طريق إدراك أنه بدون بولس ومن يماثله من المتعصبين الذين لايعرفون لوناً آخر غير التعصب، ربما لن يتبق اليوم أية تعاليم أخرى من تلك التي كان عيسى ينادي بها .
ويقول اللاهوتي جريم Grimm: "لم يكن عيسى الحقيقي يعرف أن هذه التعاليم قد استحوزت على المسيحيين بهذا العمق".
ويقول إيمانويل سفيدنبورج Emanuel Swedenborg في (مذكرات من العقل Geistiges Tagesbuch صفحات 4412، 6062 : " اتضح لي من الخبرات التي اكتسبتها من مجالات مختلفة أن بولس هو أسوأ الحواريين، فقد ظلت الأنانية تلازمه، تلك الأنانية التي كانت تملأه من قبل، حتى بشر بالإنجيل . . . .
فقد فعل كل شيء من أجل أن يكون الأكبر في السماء ويقضي بين بني إسرائيل، أما كونه لم يتخلص من هذه الأنانية التي تملأه، فهذا ما اتضح لي من خبرات متعددة. فإنه نوع من البشر الذي استبعده الحواريون الآخرون من جماعتهم، ولم يعدوا يُعدُّونَه أحدهم، ويبدوا أنه كان فى صحبة أحد أسوأ الشياطين الذي جعل تصبو نفسه إلى السيطرة على كل شيء . . وإذا ما وصفت كل ما أعرفه عن بولس فسوف يملأ هذا مجلدات.
أما حقيقة أنه كتب هذه الرسائل فهي لا تدل على إذا كانت هذه طبيعته أم لا . . . وهو لم يذكر أيضاً في رسائله حرفاً واحداً مما نادى به معلمه، وكذلك لم يذكر مثلاً واحداً مما تكلم به عيسى ، حتى إنه لم يتناول أية شيء عن حياة معلمه أو عن خطبه، حتى ولو كانت قد حُكيت له، بينما تجدها عند الإنجيليين هي الإنجيل نفسه".
وقال أيضاً: "تكلم بولس في الحقيقة بدافع من الوحي، ولكنه ليس مثل وحي الأنبياء، الذي يُملي عليهم الكلمات المختلفة التي بها يتكلمون، ولكن وحيه يظهر في أنه كان يسيطر عليه شيء يتفق تماماً مع ميوله ونزعاته الداخلية، ومثل هذا النوع من الوحي مختلف تماماً وليست له علاقة بالسماء عن طريق الإستجابة والتلبية".
كما جاء في إرسال إذاعة راديو بافاريا بتاريخ 3/1/1971 عن سيكلوجية بولس الآتي: قال فريدريش هير Friedrich Heer ( وادعاً من السماء والجحيم Abschied von Himmel und Hölle ) إن أخطر وقائع المسيحية أن بولس هو الذي أسسها، ويرجع هذا التأسيس إلى خلَلِه العقلي ( راجع صفحة ( 7 ) من هذا الكتاب ) .
وفي خطاب مفتوح وجهه إلى محكمة الجزء السويسري (89) طــالباً يدرسون اللاهوت و (6) معيدين قالوا فيه : يجب علينا فحص كتابات بولس بدقة متناهية فلا يمكنكم أن تتخيلوا النتائج العقيمة التي أحدثتها بعض النصوص البولسية في التاريخ (نقلاً عن Evangelische Woche بتاريخ 12/3/1971) وهو هنا يقصد على الأخص (رومية 13: 5 - 1) .
وعندما نتكلم عن نصوص بولس وتأثيرها السيء التي سببته ولازالت تحدثه، فيمكننا أن نقتضب الآتي من الكثير غيره: " فإنه إن كان صدق الله قد إزداد بكذبي لمجده، فلماذا أدان أنا بعد كخاطيء " (رومية 7:3) .
ويرى أوتو زيك Otto Seek في الجزء الثاني من كتابه ( تاريخ إضمحلال العالم القديم Gesschichte des Untergangs der antiken Welt صفحة 21 ) أن هذا النص هو مصدر عدم وضوح الكنيسة وازدواجها، كما لاحظ أن بمثل هذا النص يمكن للمرء أن يبدأ إقتراف بعض الأشياء شرط أن يجيد فن تأويل النصوص وتفسيرها.
وعندما نقرأ النص الآتي: "ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة، فبالأولى أمور هذه الحياة" (كورنثوس الأولى 6 : 3) فلا نحتاج معه لسؤال آخر لنعرف من أين أتى جنون الكثير من المسيحيين الذين يؤمنون باصطفائهم، بالإضافة إلى تكبُّر الكثير من رجال اللاهوت.
وأحب أن ننهي كلامنا هذا برأي أحد الأقلام الكاثوليكية الشهير لدى دار النشر "Offene Tore " (الكتيب الثالث لعام 1961) وهو يقول :
" أنتم تعرفون أنَيَ كاثوليكي، وفي طريقي إلى قدس الأقداس، وقد أدهشني هذا الإختلاف الجوهري الرهيب بين تعاليم عيسى وبولس، ولم أكن لأرتضي ذلك أبداً، وفي الحقيقة فإن هناك أيضاً أقوال لبولس لتُعد بحق نموذجاً في الحكمة والجمال . وبجانب ذلك فإن هناك أيضاً أقوال مُسممة حرفياً مصابة بالغرغرينا أصابها الورم بسبب الدخان، لدرجة أن نظرة واحدة يلقيها الإنسان على الإنجيل لتطمس معالمه تحت دخنها، وأعتقد كذلك أننا لا نظلم كتابات الحواري بولس، ولكننا نعطيها قدرها المناسب إذا ما أسميناها - كما ستفعلون (تبعاً سفيدنبورج) - "كتب الكنيسة" .
ويبدو لي أن موضوع المسيحية أو البولسية يتمتع باهتمام كبير جداً وفي أيامنا هذه تبنى إيتلبرج شتاوفر هذا الموضوع - وهو أيضاً الذي أثار هذه الفضيحة - وحتى لو قام أيضاً بهذا بشكل راديكالي بنفس الطريقة التي يشتهر بها اللاهوت البروتستانتي، وتطرف في نظرياته بلا حدود، فسيكون محقاً : فنحن نريد أن نسمع عيسى ونحاوره .
في عام 1920 كنت على علم بمسألة مصير المسيحية في المستقبل ( راجع كتاب الإنتصار على البولسية Die Überwindung des Paulinismus ) .
عن طريق كتاب هانس بلوهر Hans Blüher (Aristie des Jeseus von Nazareth) وهو كتاب يتمتع - على الرغم من كل الأخطاء التي يحتويها - ببصيرة حادةٌ تناولت طبيعة عيسى ومبادئه" .
0 التعليقات:
إرسال تعليق