.

hhhh

4587

أساطير التجسد في الشرق الأدنى القديم وأثرها في المسيحية-Daniel E. Bassuk-مقدمة و تمهيد


أساطير التجسد في الشرق الأدنى القديم وأثرها في المسيحية

تأليف الباحث الأمريكي الأستاذ :
Daniel  E.  Bassuk
ترجمه إلى العربية و قـدّم له و عـلّق عليه :
سـعـد رسـتم
ماجستير في التفسير و الحديث  ـ  ماجستير فلسفة في الدراسات الإسلامية
حلب: 1413 هـ ـ 1993 م

مقدمة و تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، سيما خاتم الأنبياء سيدنا محمد المجتبى و آله وصحبه أهل الصدق و الوفا، وبعد ،

الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم، ترجمة لفصلين فقط من كتاب كبير باللغة الإنجليزية عنوانه:

Incarnation in Hinduism and Christianity: The myth of the God Man.

أي ”التجسد في الهندوسية والمسيحية: أسطورة الإله ـ الإنسان ” لمؤلف و باحث أمريكي معاصر، و أمين مكتبة إلهيات في نيوجرسي، يدعى الأستاذ: دانييل إي. باسوك Daniel E. Bassuk.

و يتضمن كتابه عرضاً مقارناً لعقيدة التجسد ـ أي الاعتقاد بظهور الله بشكل إنسان على الأرض ـ في الديانة الهندوسية والديانة النصرانية.

أما الفصلان اللذان انتخبتهما و ترجمتهما من ذلك الكتاب، فهما الفصلان الخاصان بعقيدة التجسد في المسيحية فقط، حيث يعرض المؤلف في أولهما تاريخ فكرة التجسد، بشكل عام، في المنطقة التي كانت مهداً لانتشار المسيحية في عهدها المبكر، و هي منطقة الشرق الأدنى القديم، و يعالج في الفصل التالي عقيدة التجسد في المسيحية، مبيناً كيف و من أين نفذت هذه الفكرة الجديدة الدخيلة إلى البناء العقائدي للديانة المسيحية حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من عقائد الكنيسة، بل يبين في آخر ذلك الفصل أن هناك أوساطا مسيحية معاصرة تعتقد بإمكانية تكرر تجسد الله بصورة إنسان غير المسيح في هذا العصر، بل ترى أن هذا قد تم فعلاً، و يذكر أمثلة لمن يعتقدون بهذا الأمر!
و لما كانت فكرة التجسد Incarnation هي المحور الذي يدور حوله الكتاب، كان لا بد أن نقدم للكتاب بشرح لهذه الفكرة وبيان المقصود منها بوضوح:

يُقصد بـ ”التجسُّـد” ظهور الله تعالى ـ أو ظهور أحد الآلهة عند الذين يعتقدون بوجود آلهة متعددة ـ بشكل أرضى، أي أن يأخذ الله ـ الذي هو موجود غير مادي ـ (أو أحد الآلهة)، شكلاً مادياً جسدياً و بخاصة بشرياً، فيظهر بمظهر إنسان مثلنا ذي لحم ودم بنفس وقت كونه إلهاً! فهو إلـه ـ إنسان.

و هذه الفكرة، جزء من عقائد الديانة الهندوسية، التي يؤمن أتباعها بأن الإله ”فشنو” (المظهر الثاني لبرهمان باعتبار أن برهمان: أي الله في الهندوسية ـ واحد ذو مظاهر ثلاث: براهما و وِشنو و شيفا) قد ظهر في الهند حتى الآن عدة مرات بشكل إنسان، أي تجسَّـد، آخرها تجسّده بشكل ”كريشنا”: النبي الذي جاء إلى الهند حوالي خمسمائة سنة قبل السيد المسيح ـ عليه السلام ـ و الذي ينظر إليه الهندوس على أنه إلـه متجسِّـد.

كما أن عقيدة تجسد الله تعالى و ظهوره بشكل إنسان هو عيسى بن مريم عقيدة أساسية من عقائد الكنيسة النصرانية بجميع فرقها وطوائفها، التي ترى جميعاً أن ذلك الإنسان الذي ولد من مريم العذراء، لم يكن في الحقيقة إلا الله تعالى نفسه ـ أو بتعبير مفصل صفة الكلمة أو الابن لله و الذي هو واحد في جوهره مع الله ـ الذي تجسد و تأنس وظهر بلباس بشري لتخليص بني البشر و نجاة الإنسان! فعيسى في نظر الكنيسة إله ـ إنسان، أي إنسان حقيقي مثلنا بنفس وقت كونه ـ هو بذاته ـ إلهاً كاملاً!!

و مؤلف الكتاب من جملة المحققين الغربيين المعاصرين الذين ذهبوا إلى أن عقيدة التجسد في المسيحية عقيدة خرافية وفكرة وثنية دخيلة نفذت إلى المسيحية من وثنية اليونان و الرومان، الأمتان اللتان كان لهما الدور الأساسي في انتشار المسيحية، فكما نعلم، تمثل منطقة الشرق الأدنى القديم مهد انتشار المسيحية و المركز الأصلي لعمل بولس التبشيري بين الأمم الوثنية، و هذه المنطقة كانت تسيطر عليها الثقافة الوثنية اليونانية الهيلينية، كما أن الأناجيل والرسائل والنصوص المسيحية المقدسة كلها دونت أول ما دونت باللغة اليونانية القديمة، كما أن ظهور و غلبة الدعوة المسيحية تم في عهد الحكم الروماني وبين الشعوب الخاضعة للثقافة الرومانية و بدعم الأباطرة الرومان بدأً من عهد الإمبراطور المتنصِّر قسطنطين فما بعد.

ويرى أولئك المحققون الغربيون ـ و مؤلفنا أحدهم ـ أن رسالة المسيح بذاتها كانت رسالة أخلاقية توحيدية بسيطة لا تعقيد فيها، فالمسيح نشأ يهودياً مؤمناً و ترعرع في بيئة توراتية متدينة، من ركائزها الأساسية التأكيد على وحدانية الله تعالى الخالصة و الفصل التام بينه وبين مخلوقاته من البشر.

إن المؤلف يسعى في الفصلين القيمين من كتابه ـ اللذين تجد أمامك ترجمتهما في هذا الكتاب ـ أن يبين لنا من أين، وكيف؟ نفذت عقيدة التجسد: ”أي تجسد الله في عيسى” إلى رسالة المسيح التوحيدية الخالصة البسيطة.

ففي الفصل الأول من كتابه والذي يعنون له بـ Myth of Incarnation in the Ancient near east أي أساطير التجسد في الشرق الأدنى القديم، يعرض لنا المؤلف عرضاً موثقاً الاعتقاد بتجسد الآلهة في عالم الشرق الأدنى القديم في عهد ما قبل ظهور المسيحية، والعهد المعاصر لها، فيذكر لنا أمثلة عديدة لتصور و نظرة شعوب الشرق الأدنى لبعض عظمائهم من فلاسفة عظام كفيثاغورث و أمفيدوكلس أو ملوك أباطرة فاتحين كالإسكندر الأكبر، على أنهم في الحقيقة آلهة أو أبناء آلهة تجسدوا و ظهروا بذلك المظهر البشري!

و من جملة ذلك يبين لنا كيف أنه في العهد الروماني المعاصر للمسيح كان من الشائع إطلاق لفظ ”الرب” أو لفظ ”ابن الله” أو لفظ ”المخلص” على بعض الأباطرة الرومان كأغسطس و يوليوس قيصر و نيرون! ويذكر في هذا المجال مثلاً أن مخطوطة يرجع تاريخها لسنة 48 ق.م. تتحدث عن الإمبراطور الروماني الشهير جوليوس قيصر كَـ:"مظهر الله، وابن الإله آريز والإلـهة أفروديت والمخلِّص العام للحياة البشرية".

و لن نطيل هنا في ذكر شواهده فستقرؤها مفصلة في هذا الفصل الأول من الكتاب، و نضيف أن المؤلف يبين كذلك أن الاعتقاد بتجسُّد بعض الآلهة لم ينحصر باليونان و الرومان الوثنيين فحسب، بل كانت هناك أيضاً أفكار تجسُّدية قديمة بين اليهود، ازدادت وضوحاً في الفترة السابقة لظهور السيد المسيح، و يذكر المؤلف عدة شواهد على ذلك من أسفار كتاب اليهود المقدس تتحدث عن تجسُّد لكائنات ملكوتية مجردة ـ كالحكمة واللوجوس وبعض الملائكة ـ و ظهورها بشكل إنسان منقذ ومخلص!

و الحاصل أن المؤلف بين لنا بأسلوب علمي موثق في هذا الفصل أن الاعتقاد بإمكانية، بل بالوقوع الفعلي، لتجسد آلهة أو على الأقل كائنات ملائكية علوية مجردة، و ظهورها في شكل عظماء أو منقذين من البشر كان اعتقاداً شائعاً ومتغلغلاً في أذهان شعوب الشرق الأدنى القديم سواء منها الوثني أو اليهودي.

بعد هذا، ينطلق المؤلف في الفصل الثاني Myth of Incarnation in Christianity (أي أسطورة التجسد في المسيحية) ليبين لنا كيف و من أين ؟ دخل التفسير التجسُّدي لشخصية المسيح إلى البناء العقائدي للكنيسة المسيحية و كيف بدأت الحقيقة التاريخية لشخصية المسيح و أعماله، تختلط بالخيال و الخرافة، و يبين ما كان لآراء يوحنا صاحب الإنجيل الرابع الفريد الذي يختلف كثيراً عن الأناجيل الرسمية الثلاثة المتشابهة، ولآراء ورسائل بولـس، من أثر في هذا المجال، و تأثُّر هاتين الشخصيتين المحتمل بالفيلسوف اليهودي الأفلوطيني ”فيلو الإسكندراني”، ويبين المؤلف أن هذا التدخل للأفكار الفلسفية والأسطورية لم يتم دفعة واحدة بل تم بشكل تدريجي وعلى مراحل، و يحاول أن يبين الأسباب المختلفة التي أدت إلى تكرُّس هذا التفسير التجسُّدي الخيالي لشخص المسيح في أذهان آباء الكنيسة، و من جملة ذلك يذكر ما كان للاختلاف الكبير بين مفهوم عبارة ”ابن الله” في اللغة الآرامية (اللغة التي كان يتكلمها المسيح) أو اللغة العبرية (لغة التوراة و الزبور و الكتاب المقدس)، و مفهومها في اللغة اليونانية القديمة، التي دونت بها الأناجيل و الرسائل النصرانية الأولى، من دور في هذا الأمر، ففي حين لا تعني هذه اللفظة بلغة المسيح واللغة العبرية أكثر من معنى مجازي يدل على أن صاحبها بار متق محبوب من الله اجتباه الله واصطفاه لنفسه، تحمل عبارة ”ابن الله” في اليونانية القديمة ـ لغة الآباء العظام ـ معنى حرفياً لتعني الابن المولود فعلاً أي المنبثق من الله و الذي يكون من نفس جوهر و طبيعة الله ـ حيث أن ثقافة اليونان الوثنية كما ذكرنا كانت مليئة بالاعتقاد بآلهة لهم أولاد ولدوا منهم على نحو حقيقي!

على كل حال لا نريد في هذه المقدمة أن نلخص جميع مواضيع الكتاب وإنما أردنا فقط أن نوضح موضوع البحث لكي يكون القارئ في الصورة عن القضية المطروحة فيه وعما يريد المؤلف إثباته في كتابه ونأمل أن تكون هذه المقدمة قد حققت هذا الغرض و قد آن الأوان لنتركك عزيزي القارئ الآن مع المؤلف نفسه.

و نشير في الختام إلى أن الحواشي التي تجدها باللغة الإنجليزية هي حواشي المؤلف نفسه و هي فقط بيان لمصادر ومراجع المعلومات التي يذكرها في بحثه، أما الحواشي التي تجدها باللغة العربية فهي للمترجم أي لي، حيث وجدت من الضروري شرح الأعلام التي يذكرها المؤلف والتي قد لا يكون القارئ على علم بها وقد استفدت في هذا الأمر بشكل رئيسي من معجم الأعلام في قاموس المورد لمنير البعلبكي، كما علقت من عندي على بعض ما ذكره المؤلف مما لا نتفق معه فيه أو مما وجدته بحاجة لتعليق.

هذا ما أردت ذكره في هذه المقدمة و أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكُتـيِّب ويقبله خدمة للتوحيد الخالص و للإسلام بل لسيدنا المسيح عليه السلام كذلك، الذي تعرضت رسالته التوحيدية النقية الخالصة إلى التبديل والإضافات الوثنية، و الحمد لله تعالى أن هدانا لهذه الحقائق قبل أن يتوصل إليها أولئك المحققون الغربيون بألف وأربعمائة عام وذلك على لسان أكرم رسله وأشرف مبعوثيه وخاتم أنبيائه سيدنا محمد (صلى الله عليه و آله وسلم)، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

كتبه الفقير لرحمة الله تعالى: سـعــد رسـتـم

حلب: 1413 هـ ـ 1993 م .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites